ضرب نظام بشار الأسد مدينة «دوما» في الغوطة الشرقية بالغازات الكيماوية، ولم يكن بوسعه أن يخطئ بشكلٍ أكبر حين جعلها تتزامن مع مرور سنةٍ على الضربة العسكرية الأولى التي وجهتها القوات الأميركية قبل عامٍ مطلع أبريل 2017 ما أعطى إيحاءً قوياً أن المقصود هو التحدي المباشر واختبار عزيمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وبعد شدٍ وجذبٍ شديدين في مجلس الأمن، وبإصرارٍ روسيٍ متواصلٍ على حماية الأسد ونظامه، قرّر الرئيس ترامب تأكيد خطوطه الحمراء لنظام الأسد، وأنها لا تشبه، بأي حالٍ من الأحوال، خطوط سلفه أوباما، التي كان ينتهكها الصغير والكبير، ولكنه هذه المرة لم يضرب منفرداً، بل ضمن تحالف مع أكبر حلفاء أميركا في بريطانيا وفرنسا، وكانت الضربة العسكرية الثانية مطلع فجر السبت الماضي. يمكن تسجيل عددٍ من الأمور التي ينبغي التمعن فيها في هذا الحدث، أولها، أن أحداً لا يمكن أن يشكك في أن القوة الأولى حول العالم اليوم هي الولايات المتحدة الأميركية، لا سياسياً واقتصادياً فحسب، بل عسكرياً، حيث القوة الضاربة لأقوى دولة عرفها التاريخ البشري بطوله، وأن منافسيها في العالم لا يمكن أن يصمدوا أمام قوتها غير المسبوقة حين يتوافر لها العزيمة والقرار. ثانياً، أن أحداً حول العالم من الدول الكبيرة والصغيرة لا يجرؤ على مواجهتها عسكرياً مهما كانت العبارات التي يطلقها والشعارات التي يرفعها، ومن هنا كان الصمت الكبير من قبل روسيا تجاه هذه الضربة العسكرية مع استحضار أن روسيا استطاعت التوسع والإيحاء بقوةٍ أكبر من حجمها الحقيقي لمدة سنوات ثمان من حكم أوباما، وإقناع المنتصر أن أهم عوامل انتصاره كانت خارجة عن إرادته أمرٌ شديد الصعوبة، وبالتالي فإعادته لوعيه ووزنه الطبيعي تحتاج للكثير من الدمج بين القوة والحكمة، وهو ما أوضحته الضربة العسكرية في طولها، الذي لم يتجاوز الخمسين دقيقة، وفي دقة أهدافها، وربطها مباشرة بالسلاح الكيماوي. ثالثاً: أخرجت الضربة العسكرية بعض أحافير القوميين واليساريين العرب من جحورهم، فتذكروا مجدداً الأمة العربية والعدوان الأميركي الغاشم أو العدوان الثلاثي أو غيرها من العبارات المسترجعة من أوهام وأساطير وأكاذيب القوميين وتاريخهم شبه المنسي، وخرجت جماعات الإسلام السياسي من حلفاء إيران تشجب الضربة وتستنكرها مثلما فعلت الجماعة الإرهابية «حماس» عميلة إيران في قطاع غزة، ولم ينبس هؤلاء جميعاً بحرف لإدانة التدخل الروسي في سوريا، والتدخل الإيراني والتدخل التركي هناك، ولم يبصروا كل فظائع نظام الأسد الذي يفتك بشعبه بكل ما يمتلكه من أدوات القتل والدمار. ثمة ملاحظة ينبغي تسجيلها هنا، وهي أن البعض أراد من أميركا وحلفائها أن يتدخلوا بحرب شاملة لإنهاء الأزمة السورية مرةً وإلى الأبد، والواقع أن أمراً كهذا لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها، بل هو أمر يجب أن يتم وفق خططٍ متوسطةٍ وطويلة الأجل، لأن الحرب الإقليمية الباردة قد تحولت فعلياً لحرب دولية باردة، وهو ما يتطلب بناء استراتيجيات جديدة تعيد الأمور إلى نصابها في توازنات القوى في العالم. لقد كانت الضربة قرارا حكيماً وصائباً ويصب في الاتجاه الصحيح، وكان يجب أن يعرف نظام الأسد وداعموه من إيران وميليشياتها وجماعاتها الإرهابية إلى روسيا أن صبر العالم ينفد أمام حجم الانتهاكات الشنيعة والتوحش والمجازر التي استمرت لسنواتٍ تحت سمع العالم وبصره، وأن التمادي يُحرّض على ردود فعلٍ قويةٍ، وأن نظام الأسد لم يعد قابلاً بأي وجه من الوجوه للاستمرار في حكم سوريا، كما أنه غير قابل لأي شكل من إعادة التأهيل.