إن القول إن الوضع في قطاع غزة سيء هو تعبير أقل من الواقع. فهذا القطاع الفقير الذي يشغل مساحة ضيقة في الجهة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، لم يشهد إلا أياماً سيئة منذ عقود. لقد سافرت إلى القطاع عدة مرات خلال التسعينيات باعتباري نائب رئيس حملة «بناة السلام»، وهي مبادرة أطلقها نائب الرئيس الأميركي آنذاك «آل جور» للمساعدة على تنمية الاقتصاد الفلسطيني. وقال وزير التجارة الأميركي «رون براون» الذي قاد أحد وفودنا إلى غزة: «إن الوضع هناك أسوأ مما هو في سويتو». وخلال أول ربع قرن انقضى على الاحتلال، اعتمدت إسرائيل سياسة وصفتها الباحثة في معهد الشرق الأوسط «ساره روي» بأنها تركز على «محاربة مظاهر التطور في غزة». ولم تكن هناك استثمارات في البنى التحتية، وانخفض عدد سكان القطاع حتى بات يقتصر على بعض العمال ذوي الأجور الرخيصة الذين يعملون لصالح المصدرين الإسرائيليين. وما يزال القطاع الفقير يضم أعلى كثافة سكانية في العالم. ونظراً لأن 70? من سكانه نازحون يعيشون في المخيمات، فإنهم يتلقون مساعدات محدودة من منظمة «الأونروا» التي أنشأتها الأمم المتحدة. ورأينا في مخيم جباليا صبية صغاراً يسيرون في برك المياه وسط طريق ترابي غير معبد. وبما أن المطر لم يهطل منذ بضعة أيام، سألنا عن مصدر المياه التي يستعملها السكان، فعلمنا أنهم يستخدمون مياه الصرف الصحي. وسبق أن استولى المستوطنون الإسرائيليون على أفضل الأراضي الصالحة للزراعة، ولم يعد باستطاعة الفلسطينيين الذين يزرعون الأراضي الفقيرة تصدير منتجاتهم إلا عن طريق وسطاء إسرائيليين يسلبونهم جزءاً كبيراً من مداخيلهم. وعبّر بعض رجال الأعمال الأميركيين المشاركين في مبادرة «بناة السلام»، خلال زيارتنا، عن اهتمامهم بالاستثمار وقيام شراكات تنموية مع نظرائهم الفلسطينيين، لكنهم تراجعوا عندما علموا أنهم سوف يواجهون الكثير من القوانين والإجراءات الإسرائيلية التي تعرقل عمليات الاستيراد من القطاع والتصدير إليه. وكانت زيارة واحدة إلى حدود القطاع كافية لإبراز حجم الصعوبات التي يواجهها آلاف الفلسطينيين الذين يعتمدون على العمل اليومي في إسرائيل. فالقانون الإسرائيلي يمنعهم من المبيت هناك، لذلك يضطرون لمغادرة بيوتهم قبل الفجر حتى يصلوا الحدود قبل الساعة السادسة صباحاً على أمل السماح لهم بيوم عمل في البناء أو الزراعة. وكان يتم تحميل المحظوظين منهم في شاحنات إلى مواقع عملهم ثم تعود بهم في آخر النهار. ويصل العمال وهم ومنهكون إلى بيوتهم ليسارعوا إلى النوم ويعيدوا الكرّة صباح اليوم التالي. وفي عام 1996، كان لي شرف اختياري عضواً في «مركز كارتر» كمراقب لأول انتخابات فلسطينية. وكانت صفوف الناخبين طويلة والحماس مثيراً للإعجاب. وكانت المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى غزة في عهد إدارة كلينتون، رفقة الرئيس عندما نظم لقاءً مع «المجلس الوطني الفلسطيني» وقام بقص شريط افتتاح مطار غزة الجديد. ورغم أن مشاعر الإحباط التي يحملها الفلسطينيون من إعلان إسرائيل تملّصها من معاهدة أوسلو للسلام، فقد بقي هناك بصيص أمل في أن لا تسوء الأمور. ومقارنة بالأحوال البائسة التي يعيشها سكان غزة الآن، يمكن القول إن تلك الفترة مثلت «زمن السنوات الطيبة». وتضافرت عدة عوامل لتحريك الأمور في القطاع نحو الأسوأ، من أهمها السياسات الإسرائيلية المتشددة ذات الطابع العنيف والاستفزازي، وتحريض حركة «حماس» على أعمال إرهابية. وكان قرار «شارون» بالانسحاب الأحادي من القطاع، هو الذي أفسح المجال أمام «حماس» لبسط نفوذها عليه. وما حدث بعد ذلك هو الحصار الإسرائيلي الكامل لغزة، مما زاد فقر الفقراء. وشنت إسرائيل ثلاثة حروب ضد غزة (2008 و2012 و2014) خلفت أكثر من 3800 قتيل فلسطيني و15 ألف جريح، فضلاً عن تدمير مقصود لما تبقى من البنى التحتية المتهالكة أصلاً للقطاع.