يوم السابع من شهر أبريل الجاري، سلّم الرئيس البرازيلي السابق «لويث إيناشيو لولا دا سيلفا» نفسه لقيادة الشرطة الفيدرالية، ليبدأ بذلك تنفيذ حكم السجن بحقه لمدة 12 عاماً وشهراً واحداً على خلفية اتهامه بقضايا فساد. وكان النائب العام «سيرجيو مورو» قد وجّه له أمراً قضائياً بتسليم نفسه للشرطة مساء يوم الجمعة 5 أبريل. ولكن، وقبل أن يمتثل لهذا الأمر، قرر وضع عدة شروط، ومنها أنه لن يسلم نفسه إلا بعد حضور قدّاس كنسي بمناسبة عيد ميلاد زوجته المتوفاة «ماريزا ليتيشيا» التي توفيت العام الماضي. وحتى اللحظة الأخيرة التي سبقت استسلامه للشرطة ونقله إلى سجنه في مدينة «كوريتيبا»، حرص على مواصلة نشاطه السياسي، حيث قضى معظم أوقات نهار يوم الاستسلام بإلقاء سلسلة من الخطب من حافلة خصصها لحملته الانتخابية. وكان يحرص على مخاطبة وسائل الإعلام المختلفة، حيث قال إن إيداع أفضل مرشح في البرازيل لانتخابات شهر أكتوبر المقبل في السجن سوف يكرس انهيار القيم الديمقراطية في البرازيل. وقال في كلمة ألقاها أمام حشد من مؤيديه: «لن تكون هذه نهايتي، فأنا لم أعد مجرّد إنسان عادي، بل أصبحت فكرة. إنها الفكرة التي امتزجت بأفكاركم ورؤاكم كلها». وكان العديد من مؤيديه يرددون عبارة: «لا تستسلم». وأدت إدانة «دا سيلفا» والحكم بسجنه إلى تعقيد الأزمة السياسية التي تعيشها البرازيل. وفي هذه الدولة التي تمكنت من التخلص من مآسي العهد الدكتاتوري عام 1985، ليس من الواضح حتى الآن ما إذا كانت الديمقراطية ستجد فيها فرصتها للنجاح، أو ما إذا كان مؤيدو الحكومة السلطوية ستكون لهم اليد العليا. ويوم 4 أبريل الذي سبق يوم إعلان المحكمة الفيدرالية العليا عن رفضها لطلب «دا سيلفا» بتأجيل تسليم نفسه، نشر قائد الجيش البرازيلي الجنرال «إدواردو فيلاس» تغريدة على موقع «تويتر» أثارت الكثير من الشكوك قال فيها: «إن الجيش ومعه كل المواطنين الشرفاء يستنكرون محاولات الجناة الإفلات من العقاب ويحترمون الدستور والسلام المدني والديمقراطية». ولقد تم تفسير هذه الرسالة على أنها محاولة من الجيش لدفع المحكمة لإدانة «دا سيلفا». وذهب الجنرال «لويث شرويدر» لأبعد من ذلك، حيث افتتح حديثه خلال حوار تلفزيوني بالقول إنه إذا أعيد انتخاب «دا سيلفا» من جديد «فسوف يشعر عندئذ أن من واجب القوات المسلحة إعادة فرض النظام»! ويرى هذان الضابطان الكبيران أن مجرد مشاركة «دا سيلفا» في الانتخابات الرئاسية تُعتبر خطراً على الحرب التي تخوضها البرازيل لمحاربة الفساد، والتي تشتهر هناك باسم «عملية غسيل السيارة»، وهي حملة واسعة النطاق انطلقت عام 2014 وكشفت حتى الآن عن عدة شبكات تمارس الفساد والمحاباة في دوائر الخدمة العمومية، واهتزّت لها الأحزاب والقوى السياسية. وهذا يعني أن التحقيق مع «دا سيلفا» وسجنه لا يمثل نهاية الأزمة السياسية في البرازيل، بل بداية لمرحلة من الشكوك القوية بصحّة المسار العام للديمقراطية خلال الأشهر القليلة المتبقية لانطلاق الانتخابات العامة. ولا يزال «دا سيلفا» يتصدّر أعلى مؤشرات القبول في أوساط الناخبين من خلال استطلاعات الرأي. وهو قادر الآن على استئناف الحكم الصادر بحقه ليصبح بذلك المرشح الرسمي لـ«حزب العمال» في انتخابات أكتوبر. وإذا لم تسِر الأمور على النحو الذي يتمناه، فسوف يكون «اليسار» البرازيلي هو الخاسر الأكبر؛ لأنه يرى فيه الرمز والأمل لتحقيق أهدافه. ويعاني «اليسار» من الفوضى والتشتت والسمعة السياسية غير الطيبة والانقسام الحاد في توجهات كبار أعضائه. وهو لا يمتلك مرشحاً رئاسياً قوياً غير «دا سيلفا». ويمكن للبرازيل أن تشهد ذات المسار الذي نراه في بقية بلدان أميركا اللاتينية، وحيث أصبحت الأجنحة اليمينية للأحزاب تزداد قوة بعد أن جهرت برفضها لقطع العلاقات مع الرموز السياسية للدكتاتوريات السابقة. وهي تتمتع أيضاً بدعم الطبقة المسيحية الإنجيلية المتدينة، مثلما هي الحال في الشيلي. والسؤال المهم هنا: هل يمكن لسجن «دا سيلفا» أن يكون لمصلحة الممارسة الديمقراطية في البرازيل؟ نحن لا نعرف الجواب، ولكن الشيء الذي نعرفه جيداً هو أن الشخص الوحيد الذي سيستفيد من سقوطه هو «جائير بولسونارو»، وهو الضابط المتقاعد والمرشح الذي يحتل المرتبة رقم 2 في استطلاعات الرأي والمدافع عن عودة الحكم الدكتاتوري للبرازيل. ومع هذا الغموض الذي يغلب على المشهد السياسي في البرازيل، تتكرس الميول السياسية المتطرفة والاتجاه نحو العنف. ويوم 29 مارس الماضي عندما كان «دا سيلفا» مسافراً نحو ولاية «بارانيا» جنوب البرازيل لمواصلة حملته التي تهدف لاستعادة سمعته، تعرّض موكبه لإطلاق نار. وربما يكون ماضي البرازيل قاتماً قليلاً، إلا أن المستقبل يبقى غامضاً جداً. *محللة سياسية برازيلية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»