أوروبا ليست بخير، أي أن الديمقراطية ليست بخير. أممها الأربع الكبرى (ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا) مأزومة على نحو أو آخر. فرنسا تعصف بها إضرابات عمّال شركة السكك الحديدية. السبب المباشر للإضرابات أن الرئيس إيمانويل ماكرون سيحوّل الشركة إلى شركة مساهمة يمكن فتحها أمام المنافسة والاستثمار والتوظيف. هذا ما سبق أن حاوله رئيس الحكومة في العهد الشيراكي، ألان جوبيه، عام 1995. الإضرابات آنذاك، وكانت النقابات أقوى كثيراً مما هي اليوم، أجبرته على التراجع. الحكومة تقول إن نجاح خطتها للإصلاح الاقتصادي شرط لكي تستطيع فرنسا اللحاق اقتصادياً وتقنياً بألمانيا وبريطانيا. من دون النجاح هنا، سيتراجع اقتصادها وتتراجع قدرته التنافسية. النقابات المضربة تتهم ماكرون وحكومته باتباع النهج التاتشري النيوليبرالي في الخصخصة والانسحاب من التقديمات الرعائية اجتماعياً. والمؤكد أن نجاح الإصلاحات من دون دفع أكلاف إنسانية باهظة، على غرار ما دفعته بريطانيا في الثمانينيات، سيوفر لفرنسا فرصة جديدة. الفشل، في المقابل، ستكون آثاره السلبية هائلة على فرنسا عموماً، وعلى عهد ماكرون خصوصاً. وفي حالتي النجاح والفشل، يمكن لشعبويي مارين لوبن وحزبها أن يرسملوا على المضاعفات والانتكاسات. ماكرون يحاول أن يمنح بلاده أدواراً أكبر في الخارج، في سوريا ومع الأتراك، واقتصادياً في لبنان. لكن هذا كله لن يحجب التحديات التي تواجهه في الداخل. في بريطانيا، أحرزت رئيسة الحكومة تيريزا ماي نجاحاً ملحوظاً في المواجهة مع روسيا، بعد محاولة الأخيرة تسميم الجاسوس السابق سكريبال وابنته. لقد حظيت بتضامن أوروبي وأميركي واسع عبّرت عنه خصوصاً عمليات طرد الديبلوماسيين الروس والطرد المضاد الذي أعقبها. لكن هذا لم يغير في حقيقة الأسئلة والمخاوف الكبرى التي تواجهها المملكة المتحدة بسبب «بريكزيت»، والتي دفعت ماي إلى القيام بجولة واسعة طالت اسكتلندا وويلز وإيرلندا الشمالية، فضلاً عن إنجلترا، لطمأنة البريطانيين وتبديد مخاوفهم من الانفصال. يضاف إلى ذلك أن قيادة ماي نفسها لا تزال محاطة بعلامات استفهام وتشكيك، خصوصاً أن الكثيرين من وزرائها المحافظين لا يُخفون رغبتهم في وراثتها السياسية. وفوق هذا، تتزايد المخاوف من انحيازات متنامية لصالح حزب العمال المعارض، خصوصاً في أوساط الشبيبة وفي لوبي المعلّمين القوي والمستاء من انكماش الإنفاق الرسمي على التعليم. وبدورها تعيش إيطاليا توازياً مخيفاً بين أزمتها الاقتصادية، وهي ثاني أسوأ بلد أوروبي بعد اليونان، وأزمتها السياسية. ذاك أن نتائج انتخاباتها الأخيرة في 4 مارس الماضي أعطت الأحزاب الشعبوية الأكثرية البرلمانية، إلا أنها لم تعط هذه الأكثرية لأي حزب أو تحالف حزبيّ بمفرده. وإذ تتبدى صعوبة بناء ائتلاف حكومي بين شعبويي الشمال (حزب الرابطة) وشعبويي الجنوب (حركة النجوم الخمس)، فإن الأمور ستبقى مشرعة على الأسوأ اقتصاداً وإحباطاً شعبوياً في الآن نفسه. أما ألمانيا فتبدو مختلفة في الظاهر، لأنّ مستشارتها أنجيلا ميركل تمكنت من تشكيل حكومتها الائتلافية بعد خمسة أشهر من المحاولات والتجارب. لكنْ تبقى هناك أزمة مزدوجة: من جهة بين الرؤيتين الاقتصاديتين لطرفي الائتلاف، أي الحزب الاشتراكي الديمقراطي (الذي تولى وزارة المال كأحد شروط قبوله بالائتلاف) والتحالف المحافظ الذي يجمع حزبها المسيحي الديمقراطي وحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري.. ومن جهة أخرى بين رؤية ميركل المنفتحة إلى المجتمع التعددي وموقع الإسلام في الحياة الألمانية وموقف بعض الأطراف في تحالفها المحافظ نفسه، لاسيما وزير داخليتها ورئيس الحزب البافاري هورست سيهوفر. وقبل أسبوعين كان العالم قد شهد مساجلة بين المستشارة ووزير داخليتها حول هذه المسألة بالذات. إن أوضاع أوروبا وديمقراطياتها اليوم تتسم بعدم استقرار واضح، وهذا عارض سيئ عن أحوال عالم سيئ. *محلل سياسي- لندن