تمر منطقة الشرق الأوسط بمتغيرات متسارعة، وقد أصبحت محور صراع للقوى الدولية الكبرى، كما شهدت تبدلاً جلياً في خريطة التحالفات الإقليمية، ما جعل مستقبل الاستقرار في كثير من دولها هشاً ومحاطاً بشكوك وتساؤلات، لاسيما أن بعض هذه الدول تترقب التوجه الذي سترسو عليه سياسات الإدارة الأميركية الحالية بقيادة دونالد ترامب، وبعضها يربط جانباً من مواقفه وسياساته الاقتصادية بالتغيرات المتصلة بخريطة النفط العالمية، خاصة بعد التراجع الحاد الذي عرفته أسعار النفط منذ منتصف 2014، وما نتج عنه من تقلب في أسواق الطاقة. ومن ذلك تأتي أهمية الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه «المنطقة إلى أين: تحديات أسعار النفط»، وفيه يناقش نخبة من المختصين والخبراء مستقبل المنطقة في ظل التحديات التي تفرضها المتغيرات الحالية، ويتطرقون بتعمق إلى تطورات الأوضاع الإقليمية ومحدداتها وتحدياتها، وسياسات القوى الدولية في المنطقة ومصالحها، والتحولات الجارية في خريطة التحالفات العربية الإقليمية. كما يسلطون الضوء على إدارة ترامب ومستقبل السياسات الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، بما فيها رؤية الإدارة للتحالفات الأميركية في المنطقة، علاوة على الاتجاهات المستقبلية لأسعار النفط وتأثيراتها المحتملة، والسبل الكفيلة بالمحافظة على وتيرة التنمية الحالية في دول التعاون الخليجي. وفي الفصل الأول من الكتاب يستشرف جمال سالم الشوابكة «مستقبل الاستقرار الداخلي في الدول العربية»، من خلال تشخيص الاختلالات الأمنية والصراعات التي تعيشها الدول العربية، والتي تعزى لعوامل دينية وسياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية، ويخلص إلى استعصاء قيام استقرار تام في المنطقة العربية دون الأخذ بأسس وشروط، أولها «مبدأ العدل»، وهو الطريق المفضي لبناء مجتمعات ودول آمنة، وثانيها بناء اقتصاد قوي قادر على إشباع حاجات الأوطان وسكانها، وتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم لها. أما الثالث فهو قبول الاختلاف الديني عبر احترام جميع الديانات والمعتقدات، ما يصون الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي. فيما يتمثل الرابع والأخير في امتلاك قوات مسلحة عصرية قادرة على حماية الحدود وفرض الاستقرار. وتحت عنوان «دور مجلس التعاون لدول الخليج العربية في حفظ الاستقرار الإقليمي»، يلاحظ الدكتور شملان العيسى أنه في خضم موجة الفوضى والاضطرابات التي عصفت بالمنطقة العربية منذ عام 2010، برزت دول مجلس التعاون الخليجي بوصفها القوة العربية الرئيسية القادرة على مواجهة طوفان الفوضى الذي ضرب المنطقة، بعد انكفاء القوى العربية التقليدية (الجمهوريات) على نفسها ودخولها في دائرة الاضطراب وعدم الاستقرار، وصولاً إلى الحرب الأهلية في بعضها (كما حدث في سوريا). لقد وقفت دول المجلس بقوة إلى جانب مصر، لاسيما بعد سقوط حكم «الإخوان المسلمين»، حتى استطاعت استعادة استقرارها وتوازنها، وتدخلت عسكرياً لدعم جهود مملكة البحرين الشقيقة في الحفاظ على أمنها. كما قدمت العديد من المبادرات والمجهودات لتسوية الأزمة اليمنية سلمياً (من خلال «المبادرة الخليجية»)، قبل أن تضطر للتدخل عسكرياً من خلال تحالف «عاصفة الحزم»، للعمل على استعادة الشرعية في اليمن، بعد الانقلاب الحوثي المدعوم إيرانياً. كما ساندت دول المجلس التطلعات المشروعة للشعبين الليبي والسوري، وشاركت في التحالف الدولي لمحاربة «داعش» في العراق وسوريا، وتصدت لمخططات إيران الرامية لفرض هيمنتها على المنطقة. ويخلص الدكتور العيسى إلى أن الأحداث والتطورات التي شهدتها المنطقة منذ بدء حالة الفوضى أواخر عام 2010، أكدت أن مركز الثقل العربي انتقل إلى دول مجلس التعاون الخليجي، وأن مهمة حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، أصبحت مسؤولية هذه الدول بالأساس، وهي مسؤولية تفرض مزيداً من الأعباء والتحديات أمام دول المجلس خلال المرحلة المقبلة. وفيما يخص «العلاقات العربية الإقليمية في ضوء تغير خريطة التحالفات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط»، يوضح أسامة هيكل كيف أن المنطقة تشهد الآن بروز عدة محاور، منها محور دول مجلس التعاون الخليجي بما يمثله من أهمية اقتصادية وأمنية، ومنها المحور الإيراني السوري الذي يضم «حزب الله» اللبناني والحوثيين في اليمن، إلى جانب المحور التركي القطري الذي يضم «الإخوان المسلمين» أيضاً ويسعى لإقامة الدولة الدينية. وأمام سياسات المحاور والتحالفات الإقليمية السائدة، يرى هيكل أنه يتعين على الدول الخليجية، ومعها الدول العربية الشقيقة المتضررة من التحالفات المناوئة للنظام الإقليمي العربي، توظيف إرادتها وقوتها وتوحيد مواقفها.. فهذه الدول لديها طاقات اقتصادية هائلة ينبغي استثمارها لصالح أمن الخليج واستدامته ولإيجاد موازين قوة جديدة لصالح العالم العربي.. لكن ذلك -يقول الكاتب- يتطلب قبل كل شيء تفعيل توصية القمة العربية الداعية لإنشاء قوة عربية مشتركة وتفعيلها. وفي استعراضه لـ«سياسات ومصالح القوى الدولية»، يقيِّم جون ديوك أنتوني «التحولات في المشهد السياسي» في المنطقة العربية، ويرى أن القوى العالمية الكبرى تمتلك مجموعة من العوامل التي تكسبها حضوراً قوياً في المنطقة، ومنها: أولاً، أن دول مجلس التعاون الخليجي مقارنة بباقي دول العالم، هي الدول الست الوحيدة المتجاورة والمحافظة على السلام والاستقرار في علاقاتها مع بعضها البعض. وثانياً، أن هذه البلدان تمتلك موارد النفط التي تعتمد عليها معظم الأسواق والاقتصادات العالمية. وثالثاً، كونها تقع في جزء حيوي من العالم، خصوصاً بسبب قربها من إيران التي زادت مؤخراً من هيمنتها إقليمياً. ووفقاً لأنتوني، فإن الانهيار الكبير لأسعار النفط، وتداعيات «الربيع العربي»، وأزمة اليمن، وظهور تنظيم «داعش»، والبداية غير المعتادة لإدارة الرئيس ترامب، وتنامي أعمال إيران العدائية في المنطقة.. كلها أمور أثرت بشكل كبير في المنطقة، وأثارت قلق مختلف دول العالم. لكن رغم كل هذه الأحداث والتحديات، فقد حافظت دول مجلس التعاون على الأمن والاستقرار في منطقتها، وعلى سلامة شعوبها وازدهارها. وفي محاولة للتنبؤ بمستقبل السياسة الأميركية تجاه الإسلام السياسي والتطرف الديني في ظل الإدارة الحالية، يرى مارك تسلر في فصل بعنوان «ترامب والإسلام»، أنه لا يزال من المبكر جداً تقييم سياسة إدارة ترامب في الشرق الأوسط، رغم أن تصريحاته خلال الحملة الانتخابية، والتعيينات التي قام بها في مناصب إدارته.. كل ذلك يشير إلى جوانب قد تثير قلق البعض. ويعتقد تسلر أن إدارة ترامب مدركة لأهمية العلاقات الأميركية الخليجية، نظراً إلى المكانة الاستراتيجية الحيوية لدول التعاون، كما يعتقد أن هذه الإدارة فتحت الباب أمام تيار الإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة، عبر الإيحاء أحياناً بأن التطرف الديني مصدره الإسلام نفسه وليس تأويلات الإسلاميين المتطرفين فحسب! ويبين تسلر أن الدائرة الداخلية للرئيس ترامب منقسمة حول تصورها للإسلام، وأن بعضها عبّر صراحة عن رفض السياسات التي تستهدف المسلمين. لذلك لا يزال الغموض يحيط بالتوجه الذي ستتخذه السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، فالرئيس وإدارته نادراً ما يتفقان على الرسالة نفسها، وبسبب ذلك يشوب سياسته كثير من الضبابية. وفي فصل آخر من الكتاب، يتناول توماس ريختر «سياسات الدول المنتجة للنفط على ضوء المتغيرات في أسعار النفط»، انطلاقاً من الآثار التي خلّفها الانخفاض الحاد في أسعار النفط الخام العالمية منذ صيف 2014، على منطقة الشرق الأوسط، إذ أدى إلى تراجع إيرادات الدول، وارتفاع العجز في ميزانياتها، مما دفع لتعديلات رئيسية في سياساتها العامة. ويرى ريختر أن ثمة أداتين رئيسيتين يتم اللجوء إليهما للتكيف مع الانخفاض الحاد في أسعار النفط: استخدام صناديق الثروة السيادية لسد العجز في الميزانيات، وتخفيض الميزانيات الحكومية ذاتها. وأخيراً يستكمل بسام فتوح، في الفصل السابع من الكتاب، مناقشة تحديات أسعار النفط، ويرى أننا نشهد تحولاً من مرحلة ندرة النفط إلى مرحلة وفرته، فبينما كانت توجد توقعات بنفاد النفط، أثبتت التطورات التكنولوجية أن تلك التوقعات كانت مجرد ادعاءات كاذبة. كما اتضح أن الولايات المتحدة لديها احتياطي كافٍ من النفط الصخري يؤهلها للتعامل مع سنوات من تراجع إنتاج النفط. ويتوقع فتوح أن يكون هناك تحول في الطلب على النفط من دول «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» إلى دول أخرى خارج هذه المنظمة، مثل الهند وماليزيا وتايلاند.. لذا سيكون المنتجون في الشرق الأوسط بحاجة لتقوية علاقاتهم الاقتصادية بآسيا التي تظل مصدراً رئيسياً لنمو الطلب على النفط مستقبلاً. وإذ يتوقع فتوح أن يظل قطاع النفط يؤدي دوراً مهماً، فهو لا ينصح بالاستعجال في التخلي عنه، لكنه يدعو دول الخليج العربية لتنويع اقتصاداتها ومصادر دخلها. محمد ولد المنى الكتاب: المنطقة إلى أين.. تحديات أسعار النفط المؤلفون: جماعة الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2018