احتفلت منظمة الصحة العالمية يوم السبت الماضي بعيد ميلادها السبعين، لتبلغ بذلك بداية العقد الثامن من حياة قضتها في تخليص العالم من أمراض طالما حصدت أروح الملايين من البشر مثل الجدري، وسعياً نحو مكافحة عادات شخصية قاتلة، مثل استخدام منتجات التبغ. ويتوافق يوم عيد ميلاد المنظمة الدولية -في السابع من شهر أبريل من كل عام- مع اليوم العالمي للصحة، والذي خصص هذا العام لواحد من المبادئ الأساسية التي كانت خلف إنشاء المنظمة في عام 1948، ألا وهو أن «الحصول على أعلى مستوى ممكن من الصحة والتمتع به، هو حق أساسي لجميع أفراد الجنس البشري، وبغض النظر عن عرقهم، أو ديانتهم، أو معتقداتهم السياسية، أو ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية». هذا، ويعتبر التمتع بصحة جيدة من أغلى مقتنيات الفرد، فهي تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. فالأشخاص الأصحاء يمكنهم الدراسة والتعلم، والحصول على فرص عمل جيدة، ومن ثم الإنفاق على أنفسهم وعلى أفراد عائلاتهم وتوفير الدعم لهم.. وهي الفرص التي تصبح جميعها صعبة المنال في حال مرضهم، مما يؤثر بالتالي سلباً على جميع أفراد الأسرة، وعلى المجتمع برمته. وفي وقتنا الحالي، ومن خلال عضوية 194 دولة موزعة على ست مناطق جغرافية تشمل قارات العالم أجمع، وعبر 150 مكتباً وطنياً وإقليمياً، يبذل العاملون في منظمة الصحة العالمية جهوداً حثيثة من أجل تحقيق أفضل مستوى ممكن من الصحة الشخصية والمجتمعية، لكل الأعمار، ولجميع الناس، وفي كل بقاع الأرض وأصقاعها، وعلى خلفية تحقيق أهداف التنمية المستدامة المتمركزة حول حياة صحية رغيدة. ولذا، فإنه انطلاقاً من هذه الفلسفة، حملت فعاليات اليوم العالمي للصحة هذا العام عنوان «الرعاية الصحية الشاملة، للجميع، وفي كل مكان». وخلال العقود السبعة الماضية، والتي هي عمر المنظمة، كانت هناك علامات فارقة على طريق الكفاح التاريخي لأفراد الجنس البشري في مواجهة المرض والإعاقة. فمنذ ولادة المنظمة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة، ارتفع متوسط العمر أو مؤمل الحياة لأفراد الجنس البشري، بأكثر من 25 عاماً، أي أن متوسط العمر أو ما يتوقع أن يحياه المرء عند ولادته، قد ازداد بمقدار ربع قرن خلال هذه العقود السبعة فقط. ويعتبر الأطفال دون سن الخامسة، من أكثر الفئات العمرية التي استفادت خلال العقود القليلة الماضية من التطور الصحي على المستوى الدولي، حيث انخفض عدد الوفيات بين هؤلاء عام 2016 بمقدار ستة ملايين عن عدد الوفيات بينهم عام 1990 مثلاً. وعلى صعيد الأمراض المعدية، تم القضاء على فيروس الجدري منذ عقد السبعينيات، وهو المصير الذي يأمل الكثيرون أن يؤول إليه فيروس شلل الأطفال عن قريب. كما أن العديد من دول العالم، نجحت على المستوى الوطني في القضاء على مرضي الحصبة والملاريا، وغيرهما من الأمراض المعيقة، مثل مرض دودة غينيا، ومرض الفلاريا أو «التفيل»، بالإضافة إلى بعض الأمراض التي تنتقل من الأم لجنينها، مثل الزهري والأيدز. ويعتبر المجهود الذي تبذله منظمة الصحة العالمية في مواجهة هذا المرض الأخير (أي الأيدز) تجسيداً حياً لنجاح وفعالية التوصيات الجريئة والجديدة للمنظمة الصحة حول ضرورة توفير علاج بسيط في وقت مبكر من المرض، وبالاعتماد على أدوية منخفضة التكاليف، وهو النجاح الذي نتج عنه حصول 21 مليون شخص مصابين بالأيدز على أدوية وعقاقير أبقتهم على قيد الحياة لسنوات وعقود. وعلى صعيد التهابات الكبد الفيروسية المزمنة، وتبعاتها الصحية والاقتصادية الكارثية على حياة أكثر من 300 مليون مصاب، نجحت جهود المنظمة في زيادة الوعي والاهتمام العالمي بهذه الطائفة من الأمراض الخطيرة. وكنتيجة لشراكات وابتكارات متعددة، كانت منظمة الصحة العالمية طرفاً محورياً فيها، تتوفر حالياً تطعيمات فعالة ضد التهاب السحايا أو الحمى الشوكية، وضد فيروس الإيبولا، وأول تطعيم متاح ضد طفيلي الملاريا. وتبعاً للقول الشائع، بأن إنجازات الإنسان هي التي تصنع التاريخ البشري، بداية من قدرة إنسان الكهف على التحكم في النار واستغلالها لصالحه، ومروراً بالهبوط على سطح القمر، ووصولاً إلى تطوير التطعيمات القادرة على وقاية مئات ملايين الأطفال من أمراض كانت تحصد أرواح الكثيرين منهم، تظل إمكانية تحويل المستحيل إلى ممكن، من أهم الصفات البشرية، ومن أعظم إنجازات الإنسان على الإطلاق منذ بداية رحلته على هذا الكوكب وحتى اللحظة. ولذا يأمل الكثيرون أن تستمر هذه الروح والعزيمة في مكافحة الأمراض والعلل من المنظور الدولي، تحت قيادة منظمة دولية خرجت من أنقاض حرب عالمية طاحنة.