ملاحظة عابرة في البدء كانت، لكنها وعلى نحو يصعب تصديقه، أفضت إلى عالم من الإحالات والمعاني، لتقف بنا أمام سؤال فيه حراجة: ما حقيقة مثقفنا المعاصر؟ رحلتي مع اللغة الإنجليزية بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وكانت بين مد وجزر، على أمل أكتساب حبها، فما تحبه اليوم، لا يلبث بمرور الوقت، أن يحبك، هكذا اعتقدت. واللغة أراها مُعطىً اجتماعياً حياً، يتطوّر وقد يموت، مثل بقية المخلوقات. وللحق، فإنه حتى الآن لا أستطيع التأكيد، أنني تمكنت منها، أو أنها مكنتني من نفسها، على أن الرحلة علمتني دروساً عدّة، تصلح لاستخدامها في شؤون مختلفة في الحياة، من بين أهمها، أن الشيء الذي لا تستخدمه على نحو مستمر، يضمر وقد يموت، وهكذا إنما هي اللغة، لتصبح عملية بعثها من جديد، صعبة وتحتاج إلى إنعاش، التسريع فيه، يستوجب العيش مع أهلها. راعني في مفردات الإنجليزية، كلمة culture وترجمتها (ثقافة) في العربية، ولقب (مثقف) وترجمته الإنجليزية intellectual. مما شكّل لي ارتباكاً، مصدره الخلط بين هذين المصطلحين. أثناء البحث، وجدت أن مصطلح culture قديم جداً، وهو يشمل كل معارف المجتمع، بما في ذلك الدين، لكن كلمة intellectual مصطلح حديث تزامن مع ولادة المدرسة الرأسمالية، ويعني استبعاد الدين من الثقافة قبل كل شيء. العملية بدت هنا كأنها توريط للعرب تحديداً، إذ عليهم في هذه الحالة، الجمع بلغتهم بين المصطلحين، تحت اسم واحد (ثقافة، مثقف)، بل سرعان ما تدرك، أن هنالك خطأً أكبر من أن يكون عثرة لترجمة، لأن العرب - دون غيرهم من الأمم - لا يملكون لغة منفصلة عن الدين، صحيح أنهم تحدثوا العربية قبل الإسلام، لكن القرآن الكريم بعد نزوله، ربطها به على نحو لا انفكاك منه، بحيث لا تستطيع كلمة (مثقف) أن تعني في اللغة القرآنية، ما يريدها المترجمون في أن تعنيه. إن الصفة المميزة للمثقف، في حضارات الشرق والغرب، أنه إنسان لا يضع الدين في قائمة الحلول، بل يزيحه جانباً، ولا يعوّل عليه في إيجاد صيغة صحيحة لإدارة شؤون دنيوية، باعتباره ثقافة (غير دنيوية)، وعلى المثقف أن يبحث في دنياه عما يهديه إليه عقله الحر. ينقل لنا التاريخ (أن لقب المثقف أصلاً، لم يظهر إلاَّ بعد إنهاء سلطة الكنيسة في أوروبا، في القرون الوسطى، ونجاح الرأسمالية في تحرير الإدارة الدنيوية، من تحالف خطر بين الكنيسة ورأس المال). بُعيد هذه الحقبة المفصليّة، شهدت الحضارة البشرية، ولأول مرة، بروز ذهنية جديدة لا يستعمل صاحبها لغة الدين، ولا يهمه البحث عن حلول لمشكلات الناس في الآخرة، بل يبحث عن حلول لمشكلاتهم الآنية الماثلة، مستخدماً منهجاً يقوم على استقراء التاريخ، وليس على استشارة نصوص الدين. هذه الذهنية الجديدة هي التي أنتجت شريعتين في العصر الحديث، الأولى تقوم على الإيمان بحرية رأس المال، والثانية تقوم على الإيمان بحتمية سقوط الرأسمالية - الإقطاع والكنيسة جميعاً، وهاتان الشريعتان، على المثقف المعاصر في الشرق والغرب، أن يعتنق إحداهما، ليبعده ذلك عن معنى كلمة مثقف الأساسية، التي تعني الإنسان الذي صقلته التجربة وجعلته مستقيماً كالرمح، لتجد اليوم أن المثقف العربي المعاصر، يخاطب قومه بلغة تنأى عن موروثاتهم، يخاطبهم بلغة رأسمالية أو لغة ماركسية، بينما هو وهم معاً، يعيشون في مجتمع لا يصدق ما يقوله ماركس، ولا يؤمن بحرية الرأسمالية، فيا لها من محنة.