كان من الصعب تخيل أن تهب رياح الحرب الباردة من جديد بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي واستقلال جمهورياته، إذ أعلنت وزارة المالية الأميركية، يوم الجمعة الماضي عن فرض عقوبات جديدة ضد مسؤولين في الدولة الروسية ورجال أعمال روس وشركات، بينهم سكرتير مجلس الأمن الروسي ومدير الاستخبارات الخارجية ووزير الداخلية، إضافة لرئيس الإدارة العسكرية للحرس الوطني الروسي. وشملت العقوبات 38 شخصية، بين مسؤول ورجل أعمال روسي، وشركات. ووصفت موسكو العقوبات بأنها «ضربة جديدة للعلاقات الأميركية- الروسية»، وذلك بعد أن أعلنت بريطانيا عن طرد 23 دبلوماسياً روسياً أعقبتها 20 دولة أوروبية، إضافة إلى أستراليا وكندا والولايات المتحدة التي طردت 60 دبلوماسياً روسياً، في أكبر عملية طرد جماعية لضباط استخبارات روس في التاريخ، وأسوأ أزمة دبلوماسية بين الغرب وروسيا منذ ضم شبه جزيرة القرم. فلماذا تدهورت العلاقات الروسية الغربية إلى هذا الحد ؟ هل هي سياسات الإخضاع الأميركية التي مارستها على روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي أم هو حنين روسي لأمجاد الاتحاد السوفييتي؟ هل هي حرب باردة جديدة؟ من الصعب تمييز الحقائق في ظل دوامة المزاعم والاتهامات والأجندات السياسية المتعارضة حول نتائج تورط روسيا في محاولة اغتيال الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال في بريطانيا باستخدام مادة كيمياوية، أو في اختراق أو التأثير على الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولكن الحقيقة الواضحة أن روسيا البوتينية تريد تحجيم التدخلات الغربية في الحديقة الخلفية لروسيا بكافة الوسائل السياسية والعسكرية والاستخباراتية، كما تعمل بشكل حثيث على إعادة صياغة النظام العالمي نحو عالم متعدد الأقطاب، والتحول إلى دولة ذات نفوذ على الساحة الدولية دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. من الصعب تبسيط العلاقات الأميركية- الروسية والعلاقات الروسية الغربية بشكل عام، إذ تتعاطى روسيا الاتحادية مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي على أساس أنها قوى مناوئه لها تسعى إلى تقويض نفوذها، تعارض روسيا توسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بيد أن المعارضة الروسية لم توقف أياً منهما عن التوسع. فتاريخياً، ترى الحكومات الروسية أن الدول الأعضاء في الاتحاد السوفييتي السابق تقع داخل «دائرة نفوذ» روسيا، بالإضافة إلى كونها «منطقة عازلة» بين روسيا وأوروبا، فبالنسبة لتلك الدول فإن إمكانية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تمكنها من الحصول على فرصة مباشرة للدخول إلى وسط وغرب أوروبا، والتقارب الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، ومن جهة أخرى يمنح حلف شمال الأطلسي سلامة مادية بموجب مادته الخامسة، والسلامة ليست فكرة مجردة لدول مثل أوكرانيا أو جورجيا أو مولدوفيا أو إحدى عشرة دولة شيوعية سابقة أعضاء في «الناتو»، إذ تعرضت جميع تلك الدول، في مرة أو أكثر خلال تاريخها الحديث، لتهديدات روسية مباشرة لسلامتها المادية، إذ توسع «الناتو» في البداية، فضم دولاً مثل بولندا وجمهورية التشيك والمجر، وهي دول لديها موروثات قومية طويلة من الكفاح ضد النظام في موسكو. ثم ضم الحلف دولاً مثل جمهوريات البلطيق الثلاث، التي كانت أجزاء منها ضمن الاتحاد السوفييتي السابق. فمعارضة موسكو لفكرة انضمام جورجيا أو أوكرانيا تندرج ضمن هذا المنطق. اليوم تمكنت روسيا من أن تستعيد دورها كقوة عالمية يُحسب لها حساب بعد عقد من الفوضى السياسية والاقتصادية تلا انهيار الاتحاد السوفييتي، وأصبح فلاديمير بوتين الشخصية السياسية المهيمنة في روسيا منذ انتخابه رئيساً في عام 2000،، وتظهر العقيدة العسكرية الروسية كعقيدة مواجهة و استفزاز للغرب والولايات المتحدة تحديداً، في محاولة من بوتين لإظهار مكانة روسيا الجديدة وضرورات الأمن القومي الروسي، ومقتضيات المواجهة المستعرة بين روسيا و«الناتو»، على خلفية الأزمة الأوكرانية، وما تتطلع إليه موسكو من دور فاعل على الصعيدين الإقليمي والدولي. لقد اختار بوتين في سياق رده على الغرب أن يخوض حرباً دفاعيه بأسلوب هجومي، فمحاولة إعادة تشكيل حدود النفوذ السياسي بين روسيا والولايات المتحدة، وبين روسيا والغرب قد بدأت وسترخي بظلالها على مستقبل الأمن والاستقرار الدوليين.