خمس نسوة محجبات كن يطلبن بلغة الإشارة من نساء أخريات الانضمام إليهن. كن يردن تعزيز عدد الأصوات لتكون أوضح. كنت أنا وصديقتي قد دخلنا بالفعل نطاق منطقة الاحتجاج وأصبحنا بجانب الصحفيين وسيارات الإسعاف التي تقف مستعدة، واقتربنا أكثر. وارتفع صوت النساء مرددات هتافاً إيقاعياً يمثل أغنية للشاعر والناشط الفلسطيني «أبو عرب» تتحدث عن العودة إلى أرض فلسطين. وانضمت محتجات أخريات إلى هذا الحفل الغنائي الصغير. وتخللت الأغاني زغاريد النساء. وكان هناك طفلان يتقافزان ويرددان بعض مقاطع من أغنية. والحشد المسالم الذي بلغ عدة مئات ولا يحمل أفراده إلا الهواتف المحمولة، كان يصفق ويغني. وكان المحتجون يقفون على أرض لأحد المزارعين على حافة منطقة الزيتون في شرق مدينة غزة، وينظرون إلى الحقول الخضراء فيما وراء خوذ القناصة الإسرائيليين والحواجز الرملية. وتجول مجموعة من المهرجين المطلية وجوههم بالأبيض وأنوفهم بالأحمر وأشاعوا جواً من المرح مع ارتفاع وانخفاض إيقاعات العامية الفلسطينية في غزة. وأمسك أحد المهرجين بمكبر صوت أمام كاميرا تلفزيونية وبدأ يقلد مراسلي الأنباء متفوهاً بكلام غير مفهوم، لكن بثقة توهم بأنه يقول شيئاً ذا معنى. وذلك ما حدث في غرة يوم الجمعة الماضي. أما في يوم 30 مارس، وهو اليوم الأول فيما كان يفترض أن يكون اعتصاماً سلمياً ممتداً، فقد أطلق الجنود الإسرائيليون النار على حشد آخر بلغ نحو 3000 فلسطيني اجتمعوا عند الحدود كي يحيوا ذكرى مقتل ستة من فلسطينيي الخط الأخضر (عرب إسرائيل) عام 1976 أثناء احتجاج ضد مصادرة إسرائيل لأراض عربية. وقُتل 15 محتجاً الأسبوع الماضي. وفي غرة يوم الجمعة الماضي، اصطف الناس على مبعدة نحو 200 متر من السياج الذي يفصلهم عن الجنود الإسرائيليين. ولم يسمح لهم رجال فلسطينيون في زي مدني أن يقتربوا أكثر من هذا. وكان هناك رجل واحد فقط يركب دراجة نارية لأصحاب الاحتياجات الخاصة لم يتيسر منعه من دخول المنطقة الساخنة بين الحشد والسياج. وحين دخل الرجل المنطقة دوي صوت عدة رصاصات لكنه لم يصب. وفسر أحد الصحفيين هذا بالقول إن الإسرائيليين لا يريدون قتل ناشط آخر من ذوي الاحتياجات الخاصة. وكان الصحفي يشير إلى «إبراهيم أبو ثريا» الذي ذكرت تقارير أنه فقد ساقيه في ضربة جوية إسرائيلية عام 2008 ثم أُطلقت النار عليه وقتل أثناء احتجاج في الضفة الغربية في ديسمبر الماضي. وأضاف الصحفي متحدثاً عن الشخص الذي كان يركب دراجة أصحاب الاحتياجات الخاصة إنه لولا هذا لكان قتل منذ قليل. ثم دوي صوت انفجار، فجأة وبصوت مرتفع. وخفض المحتجون رؤوسهم، وحين علموا أنها قنبلة غاز مسيلة للدموع رفعوا رؤوسهم ثانية. وشق دخان أبيض السماء الزرقاء ثم سقط على الأرض. وأحاطت سحابة دخان بالرجل المعاق على دراجته. وبعد لحظات هرع أفراد الفريق الطبي كي يساعدوه. وذكرت وزارة الصحة في غزة أن 11 شخصاً أصيبوا في عدة احتجاجات في أنحاء القطاع. وانتحبت النساء وأفسدت الدموع الكحل في عيونهن. وذكرت واحدة منهن أن هدف المسيرة الوحيد كان تعزيز روح الوحدة بين الناس رجالا ونساءً من جميع الطبقات، ولا شيء آخر. ونما إحساس فيما يبدو بالوحدة وسط الجماعة الصغيرة من الناس الذين احتشدوا أمام القناصة الإسرائيليين المتربصين. وأضافت المرأة أن المسيرة ليس هدفها العودة إلى أراضيهم في الوقت الحالي، بل وسيلة للتعبير على الرأي ورفع الصوت عالياً. وكان خلف المحتجين، صبية تتراوح أعمارهم بين 10 و13 عاماً يلعبون كرة القدم ويركلون الكرة عالياً في مرمى بصر القناصة الإسرائيليين. وتشبث المحتجون الذين احتشدوا تحت وهج شمس الظهيرة بنوع من الأمل المستبسل. كما لو أنهم يقولون: ليس لدينا ما نخسره، لذا سنأتي هنا لنصرخ بأعلى أصواتنا. وكان بعضهم يعرف أنهم يخاطرون بأكثر من مجرد التعرض للفح الشمس أو أوجاع الحلق من الصراخ، فقد أصيب بعضهم يوم 30 مارس. وجاء رجل بعكازين وكان يعرج في مشيته على ساق واحدة، بينما ساقه الأخرى المصابة تتأرجح وسط دعامات، لكي يشارك في الاحتجاج. لقد غادرت موقع الاحتجاج وأنا أفكر في باقي أنحاء غزة المنهكة والمنكوبة منذ سنوات والمغلقة حدودها والمتهالكة بنيتها التحتية التي مولتها الأمم المتحدة. وفكرت في أطفال الحي الذي أسكن فيه، ممن يلعبون كرة القدم فيما كان ذات يوم الدور الأرضي لمبنى سكني متعدد الطوابق، وليس لهم من جمهور إلا الأعمدة الخرسانية العارية وأعواد الحديد فيها. وقلت لنفسي إن غزة الجريحة خرجت مرة أخرى لتحتج وتصرخ بأعلى صوتها مطالبةً بالحياة. روان ياغي كاتبة مقيمة في غزة ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»