الرئيس المنتهية ولايته يزور مرشح المعارضة الفائز بانتخابات الرئاسة في بيته بضاحية العاصمة، ويقول: «جئت لأهنأ رئيسنا الجديد». مشهد نادر في مألوف السياسة والحياة العامة في أفريقيا، لكنه حدث في سيراليون، المستعمرة البريطانية السابقة في غرب القارة على ضفة الأطلسي، إذ تم الإعلان الأربعاء الماضي عن اسم المعارض «جولويس مادا بيو» كفائز بالمنصب الرئاسي في الدور الثاني من انتخابات الرئاسة المنظم يوم الـ31 من مارس المنصرم. إنه رجل الدولة وزعيم حزب «الشعب السيراليوني» المعارض، «بيو» الذي استطاع الانتصار على منافسه «سامورا كامارا»، وزير الخارجية السابق ومرشح حزب «مؤتمر كل الشعب» الحاكم. لكن قبل ذلك استطاعت سيراليون الانتصار على نفسها حين أصرت على الالتزام بدستورها الذي يحظر على شاغل المنصب الرئاسي الترشح لولاية رئاسية ثالثة. لقد عرفت سيراليون فترات قصيرة ومتقطعة من التعددية الحزبية، تخللتها سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أبطلت التناوب السلمي على السلطة في بلد متعدد الأعراق والأديان، دخل حرباً أهلية دامت 11 عاماً ولم يخرج منها إلا بأثمان داخلية ثقيلة وفادحة. وبعد ثلاث سنوات فقط على نيل السيراليون استقلالها عام 1961، ولد «جولويس مادا بيو» في إقليم «بونث» في الجنوب الغربي من السيراليون، أي في ذات العام الذي توفي فيه أول رئيس وزراء للبلاد، وهو ميلتون مارجاي، حيث حل محله أخوه آلبرت مارجاي. وكان جولويس مادا بيو واحداً من 35 طفلاً هم أبناء أحد الزعماء المحليين يدعى شارلي بيو، فتلقى تعليمه الابتدائي في مدارس الإرساليات المسيحية، والثانوي بمدرسة عمومية في مدينة «بو» عاصمة الإقليم. وبعد نيله شهادة الثانوية العامة التحق بأكاديمية السيراليون العسكرية، ليتخرج منها ملازماً أول في عام 1987، حيث خدم في مواقع مختلفة، ثم ذهب في عام 1990 ضمن قوة سلام أفريقية إلى جمهورية ليبيريا التي كانت تشهد حرباً أهلية، وعاد منها في العام التالي حين تفجرت حرب أهلية أخرى في بلده سيراليون، ليشارك في القتال ضد «الجبهة الثورية المتحدة»، وهي فصيل متمرد بقيادة «فوداي سنكوح»، تكوّن بدعم من الزعيم الليبي السابق معمر القذافي وحليفه الرئيس الليبيري شارل تايلور، وتركزت عملياتها في مناطق الماس ومناجمه. وفي ليبيريا رأى «بيو» عن كثب ما فعلته الحرب الأهلية ببلد مشابه لبلده السيراليون في كثير من الخصائص الاجتماعية، وهي التي مهدت في بلاده لانقلاب عام 1992، خامس انقلاب عسكري تشهده، حين قام جنود بقيادة الرائد «فالانتياين سترايسر» بانقلاب أطاحوا فيه بنظام الجنرال «جوزيف صيدو مموه» الذي سبق أن كان قائداً لأركان الجيش (1971 -1985)، ثم أصبح رئيساً للبلاد عقب استقالة الرئيس «سياكا ستيفنر»، النقابي والقيادي السياسي اليساري السابق الذي فاز على رأس حزبه بأول انتخابات عامة في السيراليون عام 1967، لكنه بينما كان يستعد لأداء اليمن الدستورية رئيساً للوزراء، تظاهر خصومه السياسيون ضد نتائج الانتخابات، فاستغلهم قائد الأركان «دافيد لانسانا» وقام بانقلاب عسكري، لكنه لم يستطع فرض الأمن والسيطرة على الأوضاع المضطربة، فعاد رئيس الوزراء السابق البرت مارجاي إلى منصبه مؤقتاً. بيد أن ضباطاً عسكريين آخرين بقيادة المقدم «آندرو جوكسوم» نفذوا انقلاباً مضاداً ليصبح «ستيفنس» رئيساً للوزراء بموجب نتائج الانتخابات التي أبطلها الانقلاب السابق. مأخوذاً بالانتصارات الانتخابية لحزبه وبالنموذج الماركسي السائد في كثير من دول أفريقيا وأميركا اللاتينية آنذاك، ألغى ستيفنس التعددية الحزبية وفرض نظام الحزب الواحد وحظر أي نشاط حزبي معارض، بعد التحول من النظام البرلماني التعددي إلى النظام الرئاسي السلطوي. وعلى مدى ولايتين رئاسيتين، أعلن ستيفنس الحرب على الفساد والبطالة.. لكنهما تفاقمتا أكثر من ذي قبل، وزاد بؤس البلاد في ظل حديث واسع حول ثراء الرئيس ومقربيه من عمليات استخراج وتهريب الماس. عندئذ قرر استيفنس الاستقالة وترشيح قائد أركانه العسكرية جوزيف موموه، بدلاً عنه، عن حزب «مؤتمر كل الشعب» كمتسابق وحيد تم انتخابه بالاستفتاء. وفي عهد موموه تجذرت منظومة الفساد وزاد بؤس البلاد، مما أدى لانقلاب عسكري آخر في عام 1992، أثناء الحرب الأهلية، بقيادة الرائد فالنتاين ستراسر، وكان الرجل الثاني في ذلك الانقلاب هو النقيب بيو نفسه الذي عاد لاحقاً واعتذر عن مشاركته في الانقلاب الذي قُتل خلاله 20 شخصاً. ثم قام بانقلاب عسكري آخر، لكنه أبيض، في عام 1996، أطاح فيه برفيق سلاحه «ستراسر»، وشرع على الفور في إعادة التعددية والسماح بالحريات الديمقراطية، رغم أجواء الحرب الأهلية. وبعد أن حقق «المطلوب» خلال أقل من ثلاثة أشهر قضاها رئيساً لـ«مجلس الدولة الأعلى» (المجلس العسكري الحاكم)، ترك منصبه وعاد إلى بيته، مهنئاً «أحمد تيجاني كاباح»، المسؤول الأممي السابق وزعيم «حزب الشعب»، الذي تم انتخابه رئيساً للبلاد. وشكل «كاباح» حكومة متعدد الأعراق والأحزاب ودخل في مفاوضات مع «الجبهة الثورية المتحدة» إلى أن توصل معها لاتفاق أنهى الحرب في عام 2002. وفي ذات العام أعيد انتخابه بنسبة 70? من الأصوات ضد منافسه «أرنست باي كوموري»، الذي عاد للمنافسة مجدداً وفاز بانتخابات عام 2007، لكن في مواجهة مرشح آخر من «حزب الشعب» الذي تجنب الدفع برئيسه في الانتخابات احتراماً للدستور، وهو ذات الاحترام الذي أظهره كوموري أيضاً في الآونة الأخيرة. ويعتبر السيراليونيون أن واضع اللبنة الأولى لهذه النهج الديمقراطي في إدارة التناوب على السلطة، هو «بيو» نفسه الذي فرض، بخروجه الطوعي من الحكم، على كل الرؤساء اللاحقين مسلكاً مشابهاً في احترام النصوص والآليات المتعلقة بالتناوب الديمقراطي على الكرسي الرئاسي. لذلك ما أن دخل العمل السياسي في عام 2005، إثر عودته من رحلته الخارجية الدراسية الطويلة، حيث درس العلوم السياسية والقانون الدولي خلال ثماني سنوات في الجامعات البريطانية والأميركية، حتى أصبح وجهاً سياسياً يحظى باحترام الكثيرين. وحين ترشح لانتخابات الرئاسة في 2012 حصل على أكثر من 37? من الأصوات، مقابل الرئيس المنتهية ولايته الأولى «كوروما» الذي فاز مجدداً بنسبة 58? من الأصوات. ثم بعد ست سنوات عاد «بيو» مرشحاً للمرة الثانية عن «حزب الشعب»، ليفوز في الدور الثاني من انتخابات الرئاسة يوم 31 مارس المنصرم بنحو 52? مقابل 48? لمنافسه وزير الخارجية السابق والقيادي في «مؤتمر كل الشعب». لكن الأصعب من الفوز بالانتخابات هو إدارة شؤون السلطة ذاتها، والاستجابة لآمال الناخبين. فسيراليون أحد أفقر بلدان العالم وأقلها نمواً، لذلك فالملف الاقتصادي والاجتماعي على طاولة الرئيس الجديد مليء بالمشكلات التي تتعين معالجتها دون تأخير. وكذلك ملف الوحدة الوطنية في بلد متعدد عرقياً ودينياً، إذ تكاد سيراليون تنقسم على أساس عرقي وديني بين حزبين: «حزب الشعب» الذي ينحدر معظم أعضائه من أثنية «المادني» التي تشكل 35? من السكان وتتركز في الجنوب، وحزب «مؤتمر كل الشعب» الذي ينتمي أكثر منتسبيه إلى أثنية «الليبما» التي تشكل نحو 9? من مجموع السكان، وينحدر منها معظم رؤساء البلاد السابقين. فهل يكفي لحل هذه المشكلات العويصية مجرد التعاقب الشكلي على كرسي الرئاسة وتبادل عبارات الشكر والتهنئة بين رئيس ينصرف من المنصب وآخر يستلمه؟! محمد ولد المنى