ظهرت بوادر فكر الأحزاب الديمقراطية المسيحية، كما بينا، مع الرواد والآباء المؤسسين خلال القرن التاسع عشر، مثل الراهب الفرنسي «دي لامينيه» والألماني أسقف مدنية «مينز» ويدعى «فون كيتلر». وساهمت جهود البابا «ليو الثالث عشر» في بلورة مسيحية جديدة منفتحة على الواقع الاجتماعي ومشاكل الفقراء والعمال التي تفاقمت مع تنامي الثورة الصناعية في ألمانيا وأوروبا الغربية عموماً. وهكذا نشأت بالفعل حركتان مختلفتان رغم أن مسؤوليتهما وأنشطتها كثيراً ما كانت تتداخل، ويقول الإيطالي «كاسياجلي»، أستاذ العلوم السياسية بجامعة فلورنسا، إنه لا بد من التفريق بين تيارين في هذا المجال، أحدهما ديني والثاني سياسي. (فالحركة المسماة بـ «الكاثوليكية الاجتماعية» كانت تتبع الخط البابوي، وبقيت حركة اجتماعية وأخلاقية في الأساس، مُركَّزة على رفع مستوى الطبقات العاملة. أما الحركة السياسية، فقد خاضت كافة أشكال الكفاح السياسي من خلال سلسلة من التجارب الصعبة، وهي التي سُميت بـ «الديمقراطية المسيحية». ويضيف الباحث نفسه في الكتاب الذي أشرنا إليه في مقال سابق، وهو «الفكر السياسي في القرن العشرين»، أن الكاثوليكية الاجتماعية أعطت دفعة مهمة للنقابية الكاثوليكية في دول مثل بلجيكا وهولندا والنمسا وألمانيا وسويسرا - وربما كان «جيوسييي تونيولو» أهم مناصريها على المستوى النظري، وقد حاول - وهو رجل اقتصاد شهير - أن يسجل التأثير التاريخي للعوامل الدينية والأخلاقية في الاقتصاد. وكان «تونيولو» يعتقد أن الديمقراطية ليست شكلاً لنظام سياسي، وإنما هي نظام أخلاقي واجتماعي يتعاون فيه كافة الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين والقانونيين من أجل المصلحة العامة لصالح الطبقات الأدنى). كانت حركات الديمقراطية المسيحية السياسية، يضيف «كاسياجلي»، منفتحة على نظريات الواقع المعاصر وتطبيقاته. وكانت الديمقراطية بالنسبة لهؤلاء الكاثوليك هي السبيل الوحيد لتنظيم السلطة. وفي فرنسا مثلاً كانت «سيلون» هي الجريدة الناطقة باسم الحركة التي أسسها «مارك سانجنييه»، وكانت أيديولوجيتها تقوم على فكرة الديمقراطية التي يشارك بها الجميع والمستوحاة من المسيحية. وقد انحنى «سانجنييه» لسلطة البابا، ولكنه بعد عدة سنوات، وفي العام 1924 تحديداً، استطاع أن يؤسس «الحزب الديمقراطي الشعبي»، حيث كان لعمله أعظم الأثر في الكاثوليكية السياسية الفرنسية. وكان الشخص الذي لم ينحن لسلطة البابا هو القس «مورى»، أهم شخصية في الديمقراطية المسيحية الإيطالية في أواخر القرن 19. ورغم عزل «موري» عن الكنيسة، كانت أفكاره والحركة التي أثارها شديدة الأهمية بالنسبة إلى مستقبل الكاثوليك في النظام السياسي الإيطالي. وقد أدت اتفاقية سياسية إلى التصالح بين الدولة الإيطالية والفاتيكان عام 1929، مما جذب كلاً من البابا والتراتبية الكنسية ومعظم الكاثوليك إلى الفاشية، كما كانت البابوية والكنيسة الإسبانية تؤيدان «فرانكو» - ديكتاتور إسبانيا فيما بعد - قبل وبعد الحرب الأهلية الإسبانية، ولم يعارض «فرانكو» سوى «الباسك»، في حين ظل موقف الفاتيكان من النازية غامضاً لفترة طويلة. ومن مفكري الديمقراطية المسيحية البارزين «جاك ماريتا» الذي دافع بقوة عن فكرة الفصل بين الممارسة السياسية والكنيسة «والتعاون بين الناس والشعوب من ذوي الديانات المختلفة من أجل بناء القرية الأرضية». وكان «ماريتا» كذلك «مصدر الإلهام الأساسي لأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا وأميركا اللاتينية. وليس هناك مفكر سياسي كاثوليكي في مثل وزنه منذ ذلك الحين. كما كان له أعظم الأثر في الكاثوليكية الديمقراطية في إيطاليا على وجه الخصوص». لعبت الأحزاب الديمقراطية المسيحية بعد انتهاء الحرب عام 1945 الدور الرئيسي في التصدي لليسار والشيوعية في أوروبا. كما في إيطاليا، «الحزب الديمقراطي المسيحي الإيطالي»، و«الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني»، وكلاهما تقلد السلطة بعد الحرب. ووفقاً لصناديق الاقتراع، كان الحزب الديمقراطي المسيحي الإيطالي بغير منازع هو أكبر الأحزاب الإيطالية منذ 1946 حتى 1992، حيث تراوحت نسبة التصويت له ما بين 35% و38% لعقود طويلة. كذلك في ألمانيا باستثناء 1972 و1998،2000، كانت نسبة الأصوات التي يحصل عليها بين 42% و48%، وفي عام 1957 فاز بنسبة تزيد على 50%. وقد بقي الحزب في الحكم في إيطاليا دون انقطاع ما بين 1945 - 1993، وفي ألمانيا 1949 - 1998 مع فترة انقطاع، وأصبح الحزبان جماهيريين. وبدءاً من الستينيات تساوت عضويته في إيطاليا مع الحزب الشيوعي الإيطالي بل وفاقت، وتولى الحزبان بناء بلديهما بعد دمار الحرب. ويقول الباحث الإيطالي «د. كاسياجلي»، مضيفاً أن الحزبين في البلدين قاما «بتحديد مصير دولتيهما في مجال السياسة العالمية: باختيارهما للغرب، والتحالف مع الولايات المتحدة الذي تأكد من خلال حلف الأطلنطي، الأمر الذي لقي الكثير من المعارضة من قبل اليسار في كلتا الدولتين، والخيار الأوروبي، وعقد اتفاقية الفحم والفولاذ التي كانت النواة للاتحاد الأوروبي الحالي. وأصبح هذان الحزبان الدينيان يهتمان بالتحديث الاقتصادي والاستهلاك الكبير ويتقبلان مبدأ الفردانية، ولكن قيام الرأسمالية الجديدة، وما استتبعته من قيام المجتمع الاستهلاكي دفع الأحزاب الديمقراطية المسيحية إلى الابتعاد عن الأنماط النموذجية التي وضعها مؤسسوها الذين كانوا يريدون بناء مسيحية جديدة»، ولكن لوحظ على الأحزاب المسيحية، «حتى وإن نأت بنفسها تماماً عن المؤسسات الدينية، فقد ظلت على ولائها للمبادئ المسيحية الخاصة بالقضايا الأخلاقية - مثل الإجهاض والطلاق ومحتويات المناهج المدرسية - كما أنها ساندت أيضاً تدخل الدولة في مجالات السياسة الاجتماعية، وكانت تفضل المؤسسات الداعمة للامركزية والفيدرالية». ويعد «دوسيتي» أبرز مفكري الحزب في إيطاليا، وقد اعتزل الحياة السياسية ليصبح قساً في منتصف الخمسينيات، كما اشتهر بمعركته مع الفاشية، وأسهم إسهاماً كبيراً في ظهور الدستور الإيطالي لعام 1947، والذي يعطي الأولوية للفرد كجزء من الوحدة الاجتماعية، ويعتبر الحرية مسؤولية، كما حارب من أجل سياسة أبدية الزواج ودافع عن المدارس الكاثوليكية. وفي ألمانيا أرسى الحزب دعائم اقتصاد السوق باعتبار السوق الحرة الحل الوحيد للمشكلات الاجتماعية. ويقول «د. كاسياجلي» في نهاية بحثه إن الأحزاب المسيحية لا تزال تواجه تحدياً، إذ أن «عليها أن تتواكب مع خصائص السياسة المعاصرة التي تتميز بالبرجماتية والعلمانية ورفض كل الأيديولوجيات».