«عملتُ في كتاب (السراب) على تأكيد أمور أساسية عدة، أهمها: أن الجماعات الدينية السياسية لا تعبِّر عن الإسلام، وإنما هي انحراف عن تعاليمه السمحة، وتهدد المسلمين أكثر من غيرهم، وأن هذه الجماعات قدمت الوهم والسراب إلى الشعوب في الماضي، ولا تزال تقدمهما وتصر عليهما (..) إن ما دفعني إلى تأليف كتاب (السراب)، الذي تولى كثير من الباحثين مناقشة رؤاه وأطروحاته، ثلاثة اعتبارات أساسية: الاعتبار الأول هو السعي إلى الكشف عن حقيقة الجماعات الدينية السياسية وخطورة أفكارها؛ لأنها برغم الفشل الذي لحق بها، سواء في صفوف المعارضة، أو في مواقع السلطة في دول متعددة، لا تزال تمضي في طريق الخداع وتسويق السراب والوهم، وتقديم نفسها على أنها (الحل).. الاعتبار الثاني هو إيماني الراسخ بأن أحد أهم أسئلة النهضة التي لا تزال معلقة في منطقتنا العربية هو سؤال العلاقة بين الدين والسياسة، وهو السؤال نفسه الذي طرحته أوروبا على نفسها منذ قرون، ومثلت الإجابة عليه البداية الحقيقية لنهضتها وطي عصور الظلام والتخلف التي رانت عليها سنوات طويلة؛ ولذلك فإن الفصل بين الدين والسياسة هو أحد الشروط الأساسية لتحقيق نهضة حضارية حقيقية في عالمينا العربي والإسلامي (..) الاعتبار الثالث الذي وقف وراء تأليفي كتاب (السراب)، هو أن خطر الإسلام السياسي والجماعات المرتبطة به لا يهدد وحدة الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية وأمنها واستقرارها فقط، وإنما يشوه صورة الإسلام نفسه، ويقدم خدمة مجانية إلى أعدائه المتربصين به، الذين يريدون إلصاق تهم الإرهاب والتعصب والتخلف به، وهو بريء من هذه التهم». ذلك ما يذكره الدكتور جمال سند السويدي، أستاذ العلوم السياسية ومدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، في التقديم الذي وضعه، ليس لكتابه الضخم «السراب»، وإنما لكتاب آخر يتناول كتاب «السراب» نفسه، وعنوانه «(السراب): الفكر المستنير في مواجهة الإرهاب». وفي هذا الإصدار الذي يضم الورقتين الرئيسيتين للندوة المنظمة تحت نفس العنوان في مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في مايو 2015، يقدم الأكاديمي وأستاذ العلاقات الدولية والعلوم السياسية الدكتور عبدالحق عزوزي، قراءة حول مستقبل التيارات السياسية الدينية انطلاقاً من الخلاصات التي توصل إليها كتاب «السراب»، كما يقدم الكاتب والباحث في علم الاجتماع السياسي الدكتور عمار علي حسن مقاربة بعنوان «سرابهم وماؤنا.. كيف نصنع تنويراً يحاصر الإرهاب؟»، يؤكد فيها أن ظاهرة الإسلام السياسي والجماعات الدينية السياسية هي فكرة فاسدة في منشئها، كونها تحول الدين من قيم سامية تقوم على التراحم والخيرية إلى أيديولوجيا سياسية بائسة. ويتوقف الدكتور عزوزي عند بعض الأفكار الرئيسية لكتاب «السراب»، ثم يحاول استشراف مستقبل التيارات الدينية السياسية والسيناريوهات الممكنة بشأنها، وذلك انطلاقاً من الخلاصات التي سجَّلها كتاب «السراب». وقبل ذلك يقدم الكاتب تعريفاً توصيفياً لكتاب «السراب»، موضحاً أنه يقع في أكثر من 700 صفحة ويتوزع على سبعة فصول، يسبقها تمهيد ومدخل، وتعقبها خاتمة وملاحق وهوامش ومراجع وفهارس. وبينما يقدم الفصل الأول منه، وعنوانه «الإسلام السياسي بين الواقع والخرافة»، رؤية نظرية مفهومية حول الجماعات الدينية السياسية ومعتقداتها الفكرية المختلفة، يركز الفصل الثاني على التعريف بمسألة الخلط بين الدين والسياسة، نظرياً وتاريخياً، وما يترتب عليها من مخاطر وخلافات وشقاقات. أما الفصول من الثالث إلى السادس فتقدم عرضاً مفصلاً حول الجماعات الدينية السياسية، حيث يتعرض الفصل الثالث لجماعة «الإخوان المسلمين»، بينما يركز الفصل الرابع على التيار السلفي، ويتحدث الفصل الخامس عن تيار السروريين وتأثيره الفكري والثقافي. أما الفصل السادس فيركز على فكر السلفية الجهادية ممثلة في الجماعات والتنظيمات الجهادية، وفي مقدمتها تنظيما «القاعدة» و«داعش»، فيما يتناول الفصل السابع استطلاع رأيٍ لعينةٍ من الجمهور العربي المسلم في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ بغية التعرف على اتجاهات الجمهور حيال فكر الجماعات الدينية السياسية، ورأيه في ممارساتها ومدى مسؤوليتها عن الاضطراب الحادث في كثير من الدول العربية. وقد رأت أغلبية هذه العينة أن تجربة الجماعات الدينية السياسية في بعض البلدان العربية في الحكم كانت فاشلة، وأن فرصها في الحياة السياسية تبدو ضعيفة على ضوء نتائج وصول بعض أحزابها إلى الحكم في بعض البلدان العربية، وما شهدته من إخفاق، سواء حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، أم «حركة النهضة» في تونس.. مما يوضح أن الجماعات الدينية السياسية لم تستوعب أولويات مجتمعاتها، كما لم تدرك مغزى التدين الفطري الذي تتسم به هذه المجتمعات، وأنه لا يعني بالتبعية ميلاً إلى بناء نموذج ديني في الحكم وفقاً لمنهج الجماعات الدينية السياسية. وانطلاقاً من الخلاصات الاستشرافية التي جاء بها كتاب «السراب» حول نشأة وتطور أهم التيارات الدينية السياسة في الوطن العربي، يناقش الدكتور عزوزي ثلاثة اتجاهات مستقبلية: أولها سيناريو أفول التيارات الدينية السياسة، والذي يفترض استمرار تراجع هذه التيارات في المستقبل على غرار ما وقع لها في مصر. وثانيها الاتجاه الإصلاحي أو السيناريو الذي يفترض إحداث ثورة أيديولوجية تجعل الناخبين يكفون عن إعطاء أصواتهم لهذه التيارات، كما تجعل التيارات ذاتها تتخلى عن خلط الدين بالسياسة. وأخيراً سيناريو التحول الراديكالي التشاؤمي، ويشير إلى حدوث تحولات تصب في صالح التيارات الدينية السياسية. أما الدكتور عمار علي حسن فيوضح في ورقته كيف احتوى كتاب «السراب» على الكثير من الأفكار والتدابير التي تظهر أسباب نمو التطرف الديني، في مقاربته للتنظيمات والجماعات الدينية السياسية، بدءاً من عرض تاريخ نشأتها وتطورها، وانتهاءً برسم مسارات مستقبلها، مروراً بطرح أفكارها الأساسية وشخصياتها الرئيسية، ومواقفها من الوقائع السياسية والاجتماعية في البلاد التي ظهرت فيها أو تلك التي امتدت إليها. لذلك يرى الدكتور عمار أن كتاب «السراب»، وقد رسم خريطة معرفية حول التنظيمات الدينية السياسية، يوضح ثلاثة أمور أساسية في هذا الصدد: أولها أن مشروع التنظيمات المتطرفة، التي أنتجت الإرهاب والعنف بأشكاله، وطالما طرحت نفسها بوصفها «الحل» و«الوعد» و«الأمل».. وانخدعت قطاعات عريضة من الناس بشعاراتها ومقولاتها، اتضح أخيراً للجميع أن مشروعها وهم وسراب، لأن فكرتها من حيث المنشأ فاسدة، وممارستها معوجة، فضلاً عن التواء نهجها، وافتقارها للبرنامج العصري، وسيرها عكس حركة التاريخ. الأمر الثاني أنه لا خروج من هذا الوهم إلا بالكشف عن مقولاته وفضح مساراته وممارساته، وإنهاء الذرائع التي توجِدُه، أو الأسباب التي تولِّده، وإيقاف كل ما يغذيه ويقويه، ويمكِّنه من الاستقرار والاستمرار، وذلك عبر تعبئة الموارد المادية والمعنوية التي تملكها الدولة والمجتمع المدني في وجه الجماعات الدينية السياسية. أما الأمر الثالث فهو أن الخروج من هذا الوضع لن يكون إلا بالإصلاح الديني والتنوير جنباً إلى جنب الإصلاح المجتمعي وتحرير إرادة البشر، بما يقطع الطريق على سعي هذه التنظيمات إلى بناء عمق اجتماعي.. فبذلك يتم القضاء على ذرائع الانتماء إلى هذه التنظيمات أو الإنصات لها بحثاً عن ألفة أو منفعة. لكن لماذا التنوير؟ وما أهميته في مواجهة الحركات الدينية السياسية؟ يعتقد الدكتور عمار أن المطلوب الآن، وبلا تردد، هو التنوير الديني؛ بغية تحقيق أهداف تروم مصلحة الدين والمتدينين وسائر الناس: إنقاذ صورة الإسلام التي تضررت كثيراً جراء أقوال وتصرفات المتطرفين الذين يستعملون هذا الدين في تبرير القتل والتدمير، وإنقاذ المسلمين الذين يدفعون أثماناً باهظة لخطابات المتطرفين وممارساتهم، وأخيراً كف الأذى عن أتباع الديانات الأخرى في بلاد المسلمين وغيرها. ثم يتحدث الدكتور عمار عن خمسة شروط للتنوير الديني؛ فردية الإيمان (أي عدم وجود أي وسيط بين العبد وربه)، تكامل العقل والوحي، الوعي الأخلاقي، التمييز بين الدين والسياسة، تحديث المجتمع. وهكذا يواصل كتاب «السراب» استقطاب اهتمام الباحثين ويشد انتباه الدارسين، وما انفك النقاش الذي يثيره بين الباحثين والمتخصصين بشؤون الجماعات الإسلامية، يتطور وينمو، لاسميا بعد صدور طبعات كثيرة لهذا الكتاب الضخم وانتشارها بين القراء، ليس باللغة العربية فحسب، بل بسائر اللغات الحية التي تُرجم إليها أيضاً. محمد ولد المني الكتاب: «السراب».. الفكر المستنير في مواجهة الإرهاب المؤلفان: عبدالحق عزوزي وعمار علي حسن الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2018