يوم الخميس الماضي، قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب: «إننا نعتزم الانسحاب من سوريا قريباً جداً. لنترك الآخرين يتولون أمرها الآن». ولاحقاً، جمّد المبلغ الزهيد (200 مليون دولار) الذي كانت الولايات المتحدة قد تعهدت به للمساهمة في إعادة إعمار المناطق المحررة من تنظيم «داعش». وإذا نفذ ترامب ما وعد به -أقول إذا– فسيكون قد عدل عن قرار اتخذه أواخر العام الماضي! سياسة ترامب الخارجية يمكن وصفها بالانعزالية، وبالافتقار للترابط أيضاً. أما فلسفته، فيمكن اختزالها في التالي: إذا توقفت القنابل، فإليكم منا السلام. والواقع أن الولايات المتحدة ألقت الكثير من القنابل في سوريا، أغلبها على تنظيم «داعش»، لكن أيضاً على إحدى قواعد بشار الأسد الجوية، إلا أن ترامب لديه حساسية تجاه الالتزامات بعيدة المدى في الشؤون الخارجية. والمشكلة أن الولايات المتحدة لم يسبق أن حققت أهدافها بدون تدخل طويل. فقد غادرت أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت النتيجة (بعد 21 عاماً) الحرب العالمية الثانية. ثم بقيت في أوروبا بعد 1945، وكانت النتيجة سلاماً ورخاءً غير مسبوقين. كما تدخلت في الصومال عام 1992 وخرجت في 1994، تاركةً وراءَها الفوضى التي سمحت بظهور جماعة «الشباب» المتطرفة. وساعدت في إطاحة القذافي عام 2011، لكنها لم تفعل شيئاً لإرساء الاستقرار في ليبيا، مما سمح بأن يصبح ذلك البلد ساحة لعب أخرى للمتطرفين الإسلاميين. والآن، تحاول واشنطن الحد من الخسائر عبر شن ضربات بواسطة طائرات بدون طيار ضد زعماء «القاعدة» في ليبيا. ثم هناك العراق، حيث لم تفعل إدارة بوش الابن ما يكفي لإرساء الاستقرار بعد سقوط صدام حسين عام 2003، ما خلق ظروفاً مواتية لحركة تمرد كلفت الولايات المتحدة نحو 4500 قتيل وأزيد من 32 ألف جريح. صحيح أن الزيادة في عديد القوات الأميركية هناك خلال عامي 2007 و2008 أعادت الهدوء، لكن سحب الرئيس باراك أوباما للقوات الأميركية في 2011 ساعد على صعود «داعش». ووقتئذ، انتقد الجمهوريون قرار أوباما بشدة، لكنهم اليوم صامتون بينما يبدو ترامب مصمماً على ارتكاب الخطأ نفسه في سوريا. إن سحب نحو ألفي جندي أميركي قد يسمح لـ«داعش»، التي تسيطر اليوم على أقل من 7? من الأراضي السورية، بالصعود مجدداً. كما أن من شبه المؤكد أن يسمح لإيران ببسط سيطرتها على شرق سوريا، وخلق جسر بري من طهران إلى دمشق وبيروت من شأنه زيادة التهديد بالنسبة لإسرائيل. ومثلما يقول جوش روجين، فبدلاً من أن يأخذ نفط الإرهابيين، فإن ترامب يبدو مستعداً لتسليمه للملالي! والأكثر إزعاجاً في الانسحاب أنه سيمثل خيانة للأكراد والعرب في «قوات سوريا الديمقراطية» التي قاتلت إلى جانب الجنود الأميركيين ضد «داعش». فهم الحلفاء الأكثر اعتدالا ووثوقاً بالنسبة للولايات المتحدة في سوريا. لذا فالطريقة الصحيحة هي مساعدتهم على إنشاء منطقة حكم ذاتي في الثلث الذي تسيطر عليه قواتهم من مساحة سوريا، وهو ما من شأنه حماية بعض التراب السوري من الهيمنة الروسية والإيرانية ومنح الولايات المتحدة كلمة في مستقبل هذا البلد. لكن أميركا الآن تبدو مصممة على التخلي عن «قوات سوريا الديمقراطية» كما تخلت عن الفيتناميين الجنوبيين في السبعينيات، والأفغان في التسعينيات، والعراقيين بعد 2011. فكم من الوقت سيستغرق الأمر قبل أن يبدأ ترامب إعادة النظر في الالتزام الأميركي تجاه أفغانستان الذي دعمه بشكل فاتر؟ وماذا سيحدث في العراق في حال أخبرت قناة «فوكس» وأخواتها ترامب بأن الولايات المتحدة مازال لديها 5 آلاف جندي هناك؟ الواقع أنه إذا غادرت الولايات المتحدة سوريا والعراق، فإن ذلك سيشكل مكسباً غير متوقع لإيران، الدولة المارقة التي يزعم ترامب كرهها، لكن ليس قدر كرهه للالتزامات طويلة المدى! ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»