إنْ خُيّرتَ بين الأمن والاستقرار أو الحياة السياسية الديمقراطية، فماذا ستختار؟ سيقول البعض: ولكن لماذا يجب علينا الاختيار بينهما، ولماذا لا يكونان معاً في منظومة واحدة متكاملة! وللجواب عن ذلك التساؤل نقول بأن المثالية دائماً تأتي بنماذج متكاملة نظرياً، ولكن عند التطبيق يكون الفشل نصيب تلك التجارب إذا ما غابت المقدمات للحصول على النتائج، وقد لا يكون بالضرورة هناك مقدمات، وسنحصل على نتائج، ولكنها مؤقتة وغير مستدامة ومصممة لخدمة الأفراد والتنظيمات والمؤسسات المنفردة وليس المجتمع ككل. ولذلك ما أن يقترب موعد الانتخابات في الدول العربية التي تنادي بالديمقراطية إلا وتشاهد وتسمع عن انفلات أمني أو عمل تخريبي وهجوم إرهابي وسقوط اقتصادي وانهيار قيمي واتفاقيات ومشاريع متعلقة بعلاقة الرئيس أو حزبه أو المؤسسة التي أتى منها بالأطراف الخارجية، والتي لا تثق أو تتعامل مع غير تلك العناصر من النظام والقائمة تطول مع ربط التنمية بالبطل المهيب الذي وحده المخلص لمشاكل الشعوب في مشهد متكرر يعكس حالة العقل الجمعي للأمة العربية والإحساس بالحرية السياسية الشكلية الزائفة التي لا تعمر وطناً ولا تبني مواطنة. وشخصياً لا أرى أي مصداقية علمية وعقلية تذكر لادعاء بأن الديمقراطية هي شيء غير محدد ثقافياً وقيمة عالمية، ولربما هو طرح قائم على افتراضات عامة وشعور بالتفوق الثقافي للثقافة التي تعتبر نفسها مخترع النظام الديمقراطي، وبأنه كله خير ومناسب للجميع دون استثناء بثوبه الغربي وتحويراته العديدة، وكأن الديمقراطية لم ينتج عنها ديكتاتور قمعي يتمثل في الحزب أو اللوبي أو الطبقة التي تمارس العنف بطرق غير تقليدية لتفرض واقعاً على بقية المجتمع والعالم أجمع في حالات أخرى لحماية الوضع القائم ومصالح تلك الفئات وكذبة ممارسة الديمقراطية بصورة سليمة، ما يعني بالطبع أنه يوجد شيء اسمه ديمقراطية غير مناسبة أو غير سليمة! ولماذا ننادي بالتعددية الثقافية وتقبل الآخر المختلف، ونرفض التعددية السياسية في نظم الحكم، كون عملية الانتقال المصممة للانتقال للحياة الديمقراطية في تلك الدولة غير متناسقة في الأساس مع قيم المجتمع الأساسية، ومصممة بشكل سيئ. كما أن الشارع المهووس بالتغيير الذي ليس له ملامح واضحة أو يتمتع ببنية تحتية وممكنات متوافرة لإحداث تغيير نوعي يكون نتاجاً غير طبيعي لتطور مفاهيم وقيم وعادات ونظم المجتمع نفسه، وبالتالي تداعيات الليبرالية السياسية في السياق العربي محصورة في طبقة فرعية ضمن طبقة معينة وفئة معينة من الشعب، تقود الجماهير المنقادة لصناديق الاقتراع بأساليب مشرعنة قانوناً وغير شرعية أخلاقياً، ويكون الإعلام هو الماكينة الأكبر لصناعة الرأي العام، وتوجيه أصوات الناخبين، ناهيك عن أن جزءاً غير قليل من الشعب لا يكتب، ولا يقرأ، والجزء الأكبر يعيش في فقر شديد، ويصوت لمن يهديه مؤونة الشهر القادم من السكر والقمح والطحين والزيت. إلخ. وفي المحصلة النهائية يتم التصالح مع عناصر النظام القديم، وترجع لتمسك بزمام الأمور في الدولة اقتصادياً وسياسياً وخلف الكواليس تمسك المؤسسة العسكرية بخطوط اللعبة برمتها، وهي متخذة وضعية المصلحة القومية، ويخضع للمساءلة أمام الإرادة العامة من يخالف الإرادة الشخصية للشخص الحاكم، ومن يتحكم به، فهل هي تلك الديمقراطية لضمان عدم اختطاف الدولة مرة أخرى وتعزيز مصالح مجموعة ضيقة من النخب ومحاولة لإعادة هيكلة الدولة والمجتمع بشكل جذري بمسميات جديدة، لا تخدم سوى رموز النظام القديم غير الظاهرة على الرادار السياسي، وبين هذا وذاك تبرز الشرعية الثورية (من حصد نتائج الثورة وليس الثوار)، لتتفوق على أي شرعية دستورية؟ والحتمية السياسية في تلك الدول هي إعادة انتخاب الرئيس، أو مرشح الحزب الحاكم، وهي عملية مضمونة بنسبة 100 بالمائة بعد إقصاء الخصوم، واحداً تلو الآخر، ولذلك لا تصلح الديمقراطية لشعوب غير ديمقراطية في جوهر تركيبها الاجتماعي والثقافي. ولو كانت هناك ديمقراطية مثالية، لهلك العباد والبلاد عطفاً على واقعنا في الوطن العربي، والديمقراطية بحد ذاتها ممارسة انتهى دورها التاريخي، وسيحل محلها حكم مجالس الشورى الذكية، وسيحدد من يتفوق في مشاريع الذكاء الصناعي كيف سيُحكم العالم وتُتخذ القرارات، وستتفرغ الشعوب للعمل وعيش حياتها بعيداً عن السياسة، وتصبح الحروب تخلفاً غير مبرر، ولذلك لا أتوقع النجاح لمنظومة الديمقراطية في وطننا العربي، وسيدخل العرب في مرحلة ما بعد الديمقراطية دون المرور بها.