تدخل إثيوبيا اليوم (الاثنين) مرحلة أخرى من تاريخها السياسي، يتعين أن تكسب خلالها رهانات الأمن والاستقرار والديمقراطية والتعايش الاثني وتجذير المؤسسات الدستورية. ففي يوم الأربعاء الماضي انتخبت «الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية» لرئاستها «آبيي أحمد علي»، على أن يعقد البرلمان جلسة خاصة هذا اليوم للتصويت عليه كرئيس للحكومة، خلفاً لرئيس الوزراء «هايلي مريام ديسالين» الذي استقال وسط احتجاجات شعبية تتواصل منذ عامين. فمن هو رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد؟ وهل يستطيع أن ينجز لإثيوبيا ما لم يستطعه سلفه المستقيل؟ «آبيي أحمد علي» سياسي طموح ورجل دولة نشط، شارك في الكفاح المسلح ضد النظام الشيوعي، قبل أن يلتحق بالقوات النظامية الإثيوبية، ليعود من بعد إلى الحياة المدنية ويصبح نائباً برلمانياً، ثم وزيراً في الحكومة الفيدرالية، فمسؤولا إقليمياً، ثم رئيساً لـ«المنظمة الديمقراطية لشعوب الأرومو»، قبل أن يرأس الأربعاء الماضي «الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية»، وهي تحالف حاكم يضم أربعة أحزاب ضمنها «المنظمة الديمقراطية لشعوب الأرومو». وينتمي الدكتور «آبيي أحمد علي» لعرقية الأرومو، أكبر مجموعة إثنية في إثيوبيا، وقد يصبح اليوم أول رئيس وزراء ينحدر منها. في إقليم أروميا بإثيوبيا ولد آبيي أحمد عام 1976 لأب مسلم وأم مسيحية. وفي أروميا تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي، قبل أن يلتحق في عام 1991 بقوات التحالف المعارض للنظام الاشتراكي، والذي تم إسقاطه في العام ذاته. لكن آبيي تابع مشواره العسكري، وكان من الثوار الذين تم إدماجهم في الجيش النظامي، فتلقى تدريبات على سلاح الإشارة والاستعلامات (المخابرات العسكرية). وقاد خلال الحرب الحدودية الإثيوبية الإريترية بين عامي 1998 و2000 فريق الاستخبارات العسكرية على الجبهة. وكان مدير ومؤسس «وكالة أمن شبكة المعلومات الأثيوبية» (التابعة للمخابرات الحربية) في عام 2007. وظل يترقى في سلك العسكرية حتى إحالته على المعاش في 2010 برتبة لفتنانت كولونيل. وخلال حياته العسكرية واصل آبيي تحصيله العلمي بلا توقف، ونال عدة شهادات جامعية، بدءاً بدرجة البكالوريوس في هندسة الكمبيوتر من «كلية تكنولوجيا المعلومات» بأديس أبابا عام 2001. وشهادة بكالوريوس أخرى في تشفير المعلومات من مركز متخصص في بريتوريا بجمهورية جنوب أفريقيا عام 2005. كما حصل في 2011 على شهادة الماجستير في قيادة التحول والتغيير من كلية إدارة الأعمال بجامعة غرينتش في لندن، وعلى شهادة ماجستير أخرى في إدارة الأعمال من كلية ليدستار للإدارة والقيادة في أديس أبابا (بالتعاون مع جامعة آشلاند) عام 2013. ثم توج مساره العلمي بدرجة الدكتوراه عام 2017 من معهد دراسات السلام والأمن بجامعة أديس أبابا، عن أطروحة بعنوان «رأس المال الاجتماعي ودوره في حل النزاعات التقليدية في إثيوبيا: حالة الصراع بين الأديان في ولاية منطقة جيما». ولئن كان آبيي قد بدأ مسيرته السياسية كعضو في «منظمة الأرومو الشعبية الديمقراطية» عام 1990، والتي أصبحت الحزب الحاكم في إقليم أروميا في العام التالي، فقد انكب على تكوين نفسه علمياً ومعرفياً خلال السنوات اللاحقة، ثم ما أن أنهى مشواره العسكري في 2010 حتى أصبح عضواً في اللجنة المركزية ل«منظمة أرومو الشعبية الديمقراطية»، ثم عضواً في اللجنة التنفيذية لـ«الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية». وفي الانتخابات التشريعية عام 2010، ترشح آبيي عن دائرة «أجارو» بأروميا وأصبح عضواً منتخباً في مجلس النواب (الغرفة السفلى بالبرلمان الاتحادي الإثيوبي). وخلال مشواره البرلماني، تعين عليه التعاطي مع العديد من الصادمات بين المسلمين والمسيحيين، لاسيما في منطقة جيما بإقليم أروميا. وقد تحولت بعض هذه الصدامات إلى أعمال عنف أسفرت عن خسائر بشرية ومادية، لكن آبيي حاول الاطلاع بأدوار استباقية لاحتوائها، وعمل بالتعاون مع الزعامات المحلية والمؤسسات الدينية على تحقيق المصالحة بين المسلمين والمسيحيين هناك. ثم أسس منبراً باسم «المنتدى الديني للسلام»، بغية إيجاد تعايش مستديم بين المسلمين والمسيحيين في الإقليم. وقد فاز آبيي مجدداً في الانتخابات النيابية عام 2015، لكن في دائرة «كوما» بإقليم أروميا نفسه. واستمراراً لجهوده في مجال الاتصالات والأمن المعلوماتي، أسس آبيي في 2014 معهداً للأبحاث الحكومية باسم «مركز معلومات العلوم والتكنولوجيا»، كمركز يعنى بالتفوق العلمي والتكنولوجي والابتكار. وتم تعيينه في 2016 وزيراً للعلوم والتكنولوجيا، لكنه غادر منصبه بعد بضعة أشهر فقط متجهاً إلى مسقط رأسه في أروميا، حيث تولى مزيداً من المسؤوليات في مجالي التخطيط والتنمية العمرانية. وابتداءً من أواخر 2016، أصبح نائباً لرئيس الإقليم، صاحب الشخصية المحبوبة والمؤثرة «ليمما ماجيرسا». ويعد آبيي مساهماً رئيسياً في التحولات الاقتصادية التي شهدها أروميا، لاسيما في مجالات الاستثمار والاستصلاح الترابي وتشغيل الشباب، فضلاً عن مقاومة ظاهرة الاستيلاء على الأراضي، والاعتناء بالنازحين الذين تجاوز عددهم مليون شخص جراء اضطرابات عام 2017. وبتولي آبيي رئاسة «المنظمة الديمقراطية لشعوب الأرومو» في فبراير الماضي، منح المنظمة دوراً أوسع وأكثر زخماً على المستويين الإقليمي والوطني. وكرئيس لأمانتها العامة منذ أكتوبر 2017، استطاع عبور الانقسامات الدينية والعرقية لتكوين تحالف جديد بين الأرومو والأمهرية، وهما معاً يشكلان ثلثي سكان إثيوبيا البالغ عددهم 100 مليون نسمة. وربما يحقق اختيار آبيي لقيادة الحكومة بعض التوازن بين القوميات الرئيسية في البلاد، مما يعين على تحقيق الأمن والسلم الأهلي، لاسيما أن القلاقل الحالية إنما يعود سببها إلى شعور الأرومو والأمهرة بالتهميش والإقصاء لصالح أقلية التيجري. وقد تحولت الاحتجاجات التي انطلقت شرارتها من أروميا في نوفمبر 2015 ثم امتدت لاحقاً إلى منطقة أمهرة، إلى مواجهات دموية بين قوات الأمن والمتظاهرين، في ظل شكاوى اجتماعية متزايدة من طرف العرقيتين، رغم مؤشرات تحسن الوضع الاقتصادي الإثيوبي حسب أرقام وبيانات الاقتصاد الكلي. وقد جاء انتخاب آبيي رئيساً للجبهة يوم الأربعاء الماضي بعد أن عجز رئيس الحكومة المستقيل هايلي مريام ديسالين عن إخماد الاحتجاجات وإنهاء الانقسامات داخل ائتلافه الحزبي الحاكم. فحالة الطوارئ التي أعلنها العام الماضي لمدة عشرة أشهر لم تؤدي إلى وقف الاحتجاجات، كما لم يفض قراره بالإفراج عن آلاف المعتقلين من أنصار المعارضة إلى تغيير الوضع. لذلك لم يجد في نهاية المطاف بداً من تقديم استقالته «على أمل أن يساعد ذلك على إنهاء سنوات الاضطرابات والقلاقل السياسية» كما قال في خطاب الاستقالة. ثم أعلن مجدداً -كرئيس لحكومة تصريف الأعمال- حالة الطوارئ في اليوم التالي لاستقالته. ولعل أهمية الاستحقاق الإثيوبي الحالي تتمثل في طابعه السلمي والديمقراطي، إذ تم انتخاب آبيي بالاقتراع السري، وحظي اختياره بدعم من رئيس الحكومة المستقيل الذي دعا كافة أطياف الشعب الإثيوبي إلى مؤازرة الإصلاحات التي يتبناها الائتلاف الحاكم. وبذلك الموقف تعززت آليات التناوب السلمي على السلطة، لاسيما في ظل الاهتمام الإقليمي والدولي بالتحولات الجارية في إثيوبيا، وبالنظر إلى أهمية منصب رئيس الوزراء في سير نظامها البرلماني، حيث يحظى رئيس الحكومة بكافة الصلاحيات التنفيذية. فهل سيعني تصديق البرلمان الإثيوبي هذا اليوم (الاثنين) على صعود أول رئيس وزراء من الأرومو، نهاية عصر سيطرة التيجراي على السلطة فحسب، أم سيعني أبعد من ذلك، أي الوصول بإثيوبيا إلى مرحلة تحكم فيها المؤسسات الدستورية والبرامج السياسية بدل صراع الأعراق والإثنيات؟! محمد ولد المنى