كان الكثير من المحللين الحداثيين والتقدميين ومناصري التجديد، في أوائل وأواسط القرن العشرين، على يقين شبه تام بأن «سلطان الدين وتأثيره في سبيله إلى الضمور خلال بضعة عقود قادمة»، وأن «المستقبل القريب لا محالة للعلمانية في السياسة والمجتمع، وللعلم والعقلانية في سائر مجالات الحياة». لكن ما أن توالت عقود القرن حتى تراجعت كل هذه التوقعات. ومع نهاية القرن بدا وكأن الدين يفوز بشكل ساحق على «الأفكار الدنيوية» والتيارات المنافسة، رغم كل ما قيل ويقال عن «زحف العلم العولمة والعلمانية» على عصرنا. وقد برز ذلك الانتصار والانكسار بشكل جلي في العالم العربي والإسلامي، لكنه لم يقتصر على هذه المجتمعات، إذ رأينا الدين ينتصر في أماكن كثيرة.. فما الذي جرى حقاً؟ ولماذا انقلب المسار رأساً على عقب؟ بحثت أستاذتان أميركيتان هذه التحولات، وهما «تيموثي صامويل شاه»، و«مونيكا دافي توفت» في مقال شيِّق قبل سنوات، بعنوان «لماذا يفوز الدين» («فورين بوليسي»، أغسطس 2006)، قالتا فيه: «في السباق تلو السباق، عندما تمنح الشعوب الخيار بين القدسي والعلماني، ينتصر الدين». وأضافتا أن انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 وصعود «طالبان»، والإحياء الشيعي، والاضطرابات الدينية في مرحلة ما بعد الحرب في العراق، وانتصار «حماس» في فلسطين.. بعض الأدلة على أن «الدين على طريق الظفر». ولا يزال الإنجيليون الأميركيون ينشطون في قضايا مثل حرية الأديان والتبشيريون يبرزون كقوة ذات نفوذ، لدرجة أن الدين كان مؤشراً أقوى من الجنس أو العمر أو الطبقة.. للتكهن بخيارات الاقتراع في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2004. كما «سيعمل انتشار الديمقراطية بدلاً من ضبط قوة الناشطين الدينيين المتشددين، على تعزيز قدرة الحركات السياسية الدينية دون غيرها، وسيبرز الكثير منها عبر عمليات ديمقراطية، وهي أكثر تنظيماً وشعبية مما سبق». وذلك ما رأينا جوانب منه في بلدان «الربيع العربي»، والتي لم يكن الإسلاميون من مشعلي ثوراتها وإنْ كانوا في مقدمة راكبي موجاتها! تقول الكاتبتان إن هيمنة العلمانية على الشؤون السياسية في العالم كانت في أواسط الستينيات. لكن إذا كان عام 1996 ذروة الثقة بالنفس لدى العلمانية، فقد كانت السنة التالية بداية النهاية لهيمنتها العالمية. ففي عام 1967 حطمت إسرائيل نظام الرئيس عبدالناصر، القومي العلماني، وخلال عشر سنوات هيمن آية الله الخميني على إيران، ووصل الرئيس الأميركي المتدين جيمي كارتر إلى الحكم، فيما كان القس التبشيري التلفزيوني «جيري فالويل» والبابا يوحنا بولس الثاني يحضران على المسرح العالمي. وبعد عقد من ذلك، اكتسحت حركة التضامن البولندية ذات الصبغة الكاثوليكية مسرح الأحداث، في بولندا، فيما كان المجاهدون الأفغان يتأبطون بنادق الكلاشنكون منتصرين على الشيوعية السوفييتية العلمانية. لقد تغيرت كل من مصر وإيران مثلاً على نحو كامل، وتجد خطب الرئيس الإيراني آنذاك (محمود أحمدي نجاد) الرنانة ضد أميركا وإسرائيل آذاناً صاغية لدى ملايين المسلمين من السُنة والشيعة على حد سواء، ونجده يقول في رسالة للرئيس «بوش»: «نرى الناس في سائر أنحاء العالم يندفعون بصورة متزايدة نحو نقطة مركزية رئيسة هي الله العظيم». لا القمع ولا الفقر ولا الجهل، في رأي الباحثتين، هي الأسباب! فدول العالم المستقلة، قفز عددها من 93 دولة عام 1975 إلى 147 في عام 2005، «وتقدر منظمة اليونيسكو أن معدلات التعليم لدى الكبار تضاعفت في الدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى والدول العربية، وفي جنوب وغرب آسيا بين عامي 1970 و2000. وتدنى متوسط نسبة الأشخاص في الدول النامية الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم من 28 بالمائة إلى 22 بالمائة بين عامي 1990 و2002، وفقاً لتقديرات البنك الدولي». وتتساءل الباحثتان باندهاش: «إذا كان الناس أكثر ثراءً وتعليماً ويتمتعون بحرية سياسية أكبر، فقد يفترض المرء أنهم سيصبحون أيضاً أكثر علمانية. إلا أنهم لم يفعلوا. في الواقع، إن الفترة التي كانت فيها الحداثة الاقتصادية والسياسية في أوج عنفوانها -على الأقل 30 إلى 40 سنة- شهدت طفرة في الحيوية الدينية عبر العالم. وقد اتسعت رقعة أكبر الأديان العالمية بمعدل يفوق نمو السكان عالمياً». وتعقد الباحثتان مقارنات إحصائية بين المذاهب المسيحية، وبين المسيحية والإسلام: «أنظر إلى أكبر معتقدين مسيحيين، وهما الكاثوليكية والبروتستانتية، وأكبر دينين غير المسيحية، أي الإسلام والهندوسية. استناداً إلى المعجم المسيحي العالمي، اعتنقت أعداد من سكان العالم هذه الأديان عام 2000 أكبر مما كانت عليه قبل قرن. وفي بداية القرن الـ 20 كان معظم سكان العالم بالكاد، أي 50 بالمائة بالتحديد، من الكاثوليك والبروتستانت أو المسلمين أو الهندوس. وفي بداية القرن الـ 21، كان قرابة 64 بالمائة ينتمون إلى هذه المجموعات الدينية الأربع. وقد تصل هذه النسبة إلى 70 بالمائة تقريباً بحلول عام 2025. وتؤكد مؤسسة دراسة قيم العالم التي تغطي نسبة 85 بالمائة من سكان العالم، الحيوية المتزايدة للدين. فاستناداً إلى الباحثين رونالد إنغلهارت وبيبا نوريس، فإن «في العالم الآن بصفة عامة أناس يحملون آراء دينية تقليدية أكثر من أي وقت مضى، ويشكلون نسبة متزايدة من سكانه». العالم لا يشهد انتشاراً أوسع للدين والإيمان فحسب، تقول الكاتبتان، بل وكذلك التقوى والتمسك بها: «ليس اعتناق الدين وحده هو الذي يحظى بالانتشار، وإنما يزداد المؤمنون ورعاً. وتشهد أكثر الدول كثافة بالسكان وأسرعها نمواً في العالم، بما فيها الولايات المتحدة، زيادات ملحوظة في درجة التقوى. وفي البرازيل والصين ونيجيريا وروسيا وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة.. أصبح التدين أكثر عنفواناً بين عامي 1990 و2001. وسجلت دراسات أجراها مركز تايمز ميرور ومركز بيو للأبحاث زيادة بين عامي 1987 و1997 بنسبة 10 بالمائة أو أكثر في نسبة الأميركيين الذين أجريت عليهم أبحاث والذين (يوافقون بشدة) على وجود الله وعلى أنهم سوف يقفون أمامه ليسألوا عما ارتكبوه من ذنوب، وأن الله يقوم بمعجزات، وأن الصلاة تشكل جزءاً مهماً من حياتهم اليومية. وحتى في أوروبا التي تعد معقل العلمانية، حدث التزام مذهل بالتدين». فما الذي مهد لذلك الانتشار وسهل له؟ نبين ذلك من خلال الكاتبتين في مقال قادم. خليل علي حيدر* *كاتب ومفكر- الكويت