«ميراي كنول» عجوز يهودية فرنسية مقعدة ومريضة وجدت مقتولة بطريقة وحشية في شقتها، وقد ظهر من التحقيقات أن مرتكبي الجريمة الفظيعة هم من الإرهابيين المنتسبين للإسلام. ومع أن الجالية المسلمة في عمومها نددت بالجريمة وتعاطفت مع الضحية، إلا أن سيلاً لا ينقطع من المقالات المنشورة في كبريات الصحف الفرنسية طالب المسلمين بموقف أكثر جذرية من مجرد التنديد والتعاطف، تصريحاً أو تلميحاً إلى أن عملية الاعتداء ليست مجرد حادث عرضي من ارتكاب مجموعات إجرامية معزولة، بل لها جذورها في الموقف الديني العميق من اليهود واليهودية، بما يتطلب قيام المسلمين بمراجعة جوهرية لأصول اعتقادهم وشريعتهم حتى يتمكنوا من التعامل الإيجابي مع اليهود خارج تركة نصوصهم وتراثهم. المشكل في هذه النظرة هو تحميل المسلمين (دِيناً وانتماءً) مسؤوليةً لا دخل لهم فيها من خلال قراءة مغلوطة للنصوص والتاريخ، في الوقت الذي تمت التسوية اللاهوتية والتاريخية بين اليهودية والمسيحية رغم أن الموقف المناوئ من اليهودية شكل طيلة قرون طويلة مرتكزاً من مرتكزات العقيدة المسيحية، على عكس الإسلام. ليس من همِّنا أن نرجع للمصادر الإسلامية في توضيح هذه الحقيقة، وإنما حسبنا الاكتفاء بالمصادر اليهودية ذاتها التي بينت أن المكون اليهودي شكّل تاريخياً مقوما ثابتاً من مقومات المجتمعات المسلمة، حتى في العهد النبوي بداية من صحيفة المدينة التي كرست وحدة الأمة بين اليهود والمسلمين. ولم ينته هذا الحضور بإجلاء القبائل اليهودية من المدينة المنورة إثر خيانتها لقواعد التعاقد، بدليل ما ثبت في الحديث الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي. الفيلسوف اليهودي المعروف «ادغار مورين» كتب قبل سنوات كتاباً بعنوان «العالم الحديث والمسألة اليهودية» تتبع فيه مسار العداء لليهود الذي بدأ في صيغة عقدية لاهوتية في العالم المسيحي قبل أن يتحول إلى ظاهرة جماعية، وفي حدود القرن الحادي عشر الميلادي تكرس العزل القسري لليهود في كل بلدان أوروبا باستثناء الأندلس التي كان يحكمها المسلمون، ومنعت عليهم جل الوظائف فلجأوا إلى التجارة التي كانت في نهاية المطاف طوق النجاة بالنسية لهم بل أساس قوتهم وسر استمراريتهم. في السياق ذاته، يذكر موران أن المجازر الفظيعة التي تعرض لها اليهود في أوروبا بداية من المذابح القشتالية في إسبانيا (50 ألف ضحية) إلى الجرائم النازية التي كادت تقضي على الوجود اليهودي في أوروبا، لا مثيل لها في التاريخ الإسلامي، بل إن اليهود في جل مراحل عصور الإسلام عوملوا برفق وتسامح. أهم ما ينبه إليه موران هو أن فكرة الإبادة الجماعية ليست لها خلفيات لاهوتية أو قانونية في الإسلام (على عكس التصورات التوراتية)، كما أن نزعة العداء للسامية ليست في حقيقتها نزعة دينية بل تعود جذورها إلى الفكرة القومية التجانسية الحديثة التي تنتمي إليها الأيديولوجيا الصهيونية ذاتها وتستند إليها في قمع العرب الفلسطينيين وإبادتهم. ما أشار إليه موران هو ما أثبته المستشرق اليهودي «برنارد لويس» المعروف بتواطئه مع إسرائيل، من أن التراث اللاهوتي والفلسفي اليهودي لا تمكن قراءته وفهمه إلا باعتبار التأثير الإسلامي الحاسم، إلى حد القول بأن التقليد اليهودي كان منحصراً في مدونة تعاليم وأحكام وشرائع ولم يبلور تفكيراً نظرياً حجاجياً في الاعتقاد إلا من خلال التفاعل والتحاور مع متكلمي الإسلام وفلاسفته. ومن هنا الدور المحوري الذي اضطلع به الفيلسوف اليهودي ابن ميمون تلميذ ابن رشد الذي كتب بالعربية عمله الفلسفي الأساسي «دلالة الحائرين» على الطريقة الإسلامية، وتواصل المسار انتهاءً بفيلسوف الحداثة الكبير «سبينوزا» الذي اعتمد في نسقه الفلسفي مقولات المتكلمين المسلمين بمنحها دلالات حداثية. لقد أدرك الفيلسوف اليهودي «ليو شتراوس» هذه المرجعية المشتركة بين النصين اليهودي والإسلامي من زاوية أهمية الشرع في أخلاقية السعادة وبناء النظام السياسي المكرس للفضيلة المدنية، مقابل مقولة «التقليد اليهودي المسيحي» التي فرضت نفسها في القرن الماضي، عزلا للإسلام من التقليد التوحيدي الجامع. ما نريد إضافته هو أن هذا التفاعل اليهودي الإسلامي لم يكن مجرد تفاعل نظري بل هو بارز في المناحي الاجتماعية والإنسانية، ولسنا بحاجة للتذكير بالدور الذي منح لليهود في تاريخ الدول الإسلامية خصوصا في منطقة الغرب الإسلامي إلى الحقبة الراهنة حيث كان للمسلمين دور لا ينكر في إنقاذ اليهود وحمايتهم؛ من سلطان المغرب محمد الخامس خلال الحرب العالمية الثانية إلى مسلمي فرنسا الذين حولوا جامع باريس إلى ملجأ لليهود الفارين من تنكيل الحكومة الموالية للنازية الألمانية. حاصل الأمر إذن أنه ليس في الإسلام مشكل يهودي، ومشكل الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية هو مسألة حق وقانون، أما التطرّف الديني العنيف فهو خطب يستهدف الإسلام والمسلمين قبل غيرهم وإن كان من الضروري إعلان البراءة دوماً منه.