لم يكن بإمكان إسرائيل، ومن قبلها الوكالة اليهودية، ومن خلفهما الحركة الصهيونية العالمية، أن تهزم الفلسطينيين وهم أصحاب إحدى أكثر القضايا عدلاً في هذا العصر، إلا بسبب أخطاء وقعوا فيها منذ بداية الصراع، وتحول بعضها إلى خطايا. القوى الفلسطينية، التي تُعرف الآن بالفصائل، فعلت بنفسها وبقضيتها ما لم يكن باستطاعة إسرائيل فعله، حتى إذا وقف العالم كله معها. تاريخ طويل من الصراع يمكن اختزاله في عبارة صغيرة تصلح عنواناً له، وهي: «هزيمة فلسطينية ذاتية». ومع ذلك، لم تفكر الفصائل الفلسطينية، أو بعضها، في مراجعة موضوعية لهذا التاريخ من أجل استخلاص دروس تشتد الحاجة إليها في لحظة تخبو فيها القضية، بعد أن فقدت بريقها، وسكن صوتها، وهي التي كان وهجها يشع على العالم حتى في ذروة الدعم الغربي الكامل لإسرائيل. انهمكت هذه الفصائل في صراعات لم تتوقف منذ ما قبل النكبة، ولم تقل حتى بعد أن لم يعد فيما بقي من فلسطين ما يستحق صراعاً عليه. كما أن هذا القليل الذي بقي مُهدد بالضياع إذا لم تتوافق على منهج للتعاطي مع خطة أميركية للتسوية قالت مندوبة الولايات المتحدة لدى المنظمة الدولية نيكي هايلي قبل أسابيع قليلة إن من يعدونها أوشكوا على الانتهاء منها، وإنها ستعلن قبل نهاية العام الجاري. لا تعرف الفصائل الفلسطينية طريقة في إدارة العلاقات بينها إلا تكبير صراعات باتت صغيرة وتصعيدها وتبادل الاتهامات، حتى عندما يتعلق الأمر بلقاء يُفترض أن يجمعها للتفاهم على كيفية التعاطي مع هذه الخطة في ضوء التوقعات والتكهنات بشأن محتواها. دعت القيادة الفلسطينية إلى عقد المجلس الوطني للمرة الأولى منذ عام 1996. تذكر هذا المجلس من كانوا قد نسوه بعد غياب استمر أكثر من عقدين، لكنهم لم يتأملوا الفرق الجوهري بين حال قضية فلسطين حين عقد المجلس دورته الأخيرة في قطاع غزة، وما آلت إليه اليوم. كان للقضية قدر معقول من حضورها، وبقايا من وهجها، في تلك الدورة التي حضرها الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وألقى خطاباً مهماً في لحظة بدا فيها حل الدولتين ممكناً، بل قريباً. لا يفكر من دعوا المجلس الوطني للانعقاد في مسؤوليتهم عن التدهور المهول الذي حدث لقضيتهم خلال عقدين، منذ أن رفضوا مشروعاً للتسوية تبدو استعادته اليوم ضرباً من الأحلام. كانوا كلهم ضمن قيادة السلطة الفلسطينية وحركة «فتح» تحت رئاسة الراحل ياسر عرفات، ويعرفون جيداً ما فعلوه، وما كان يحسن أن يفعلوه. ولا يفكر من رفضوا حضور الدعوة إلى دورة جديدة للمجلس الوطني في مسؤوليتهم عن الانقسام الحاد الذي أحدثوه، فأضعف الفلسطينيين وقضيتهم، وساهم بقدر كبير في تدهور وضعهم، فصارت الصراعات بينهم مقدمة على إنقاذ ما يمكن من قضية ظلت تخبو كل يوم أمام أعينهم. ومازال من صنعوا الانقسام، أو لعبوا أكبر دور في صنعه، يعوقون مصالحة تسعى إليها مصر منذ شهور. ويشاركهم في إعاقتها من انجرفوا إلى هذا الانقسام، وأتاحوا الفرصة لتكريسه، عندما أساءوا إدارة السلطة التي تمخض عنها إعلان أوسلو، ثم أخذوا الخلاف مع الجناح الإصلاحي في حركة «فتح» إلى طريق مسدود، وعزلوا هذا الجناح سياسياً، ففقدت الحركة بعض أبرز قادتها وقسماً لا يُستهان به من كوادرها. وإذ باتت ذهنية الانقسام غالبة على هذا النحو، لم يدرك من دعوا المجلس الوطني للانعقاد أن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من القضية يتطلب، قبل كل شيء، لملمة الشتات السياسي، وتحقيق مصالحة داخلية في حركة «فتح»، وتقديم أقصى مساعدة للجهود المصرية الهادفة إلى مصالحة فلسطينية شاملة، من أجل التغلب على العوائق التي تضعها حركة «حماس» في الطريق، بدلاً من المشاركة في إعاقتها. ولكل هذا، ولغيره مما لا يتسع المجال له، لا تتوفر أدنى مقومات جمع الشمل الفلسطيني المبعثر قبل الدعوة إلى عقد المجلس الوطني، والدعوة البديلة إلى «مؤتمر إنقاذ» لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام والضعف، في الوقت الذي توجه حركتا «فتح» و«حماس» وفصائل أخرى ما بقي من طاقة لديها لتصعيد الصراع، وتبادل الاتهامات، في لحظة تعد الأكثر خطراً في تاريخ قضية فلسطين، إذ تجتمع فيها تراكمات التدهور الذي حدث فيها على مدى عقود، وبلغ ذروته في العقدين الأخيرين.