أبدأ الكتابة الآن وأنا محاط بعدد كبير من المصريين المتجهين إلى مقار التصويت تلبيةً للاستحقاق الرئاسي الثاني بعد ثورة يونيو 2013 التي أطاحت بنظام «الإخوان» واتخذت من الحشود الجماهيرية الخيالية التي قدرت أعدادها بين الخمسة وعشرين والثلاثين مليون مصري مصدراً لشرعيتها، واعتبر قادتها في حينه أنها تفويض شرعي تجاوز كونه إرادة شعبية نتائج الانتخابات المشبوهة التي جاءت بـ«الإخوان» إلى سدة الحكم. فقد خدع «الإخوان» الشعب المصري والمعارضة المصرية بتشكيل حكومة ائتلاف وطني يضم كل الأطياف السياسية لإدارة مرحلة ما بعد حركة الشباب، فإذا بهم ينفردون بالسلطة ويقصون كل المعارضين ويتنكرون لكل الوعود ويظهرون عجزاً تاماً في إدارة شؤون الدولة.. فذهبوا ولم ولن يعودوا من جديد. جميلة مصر ومتميزة في كل شيء، بما فيها استحقاقاتها السياسية التي يمارس فيها الشعب حقه في اختياره الحر لمنصب الرئيس. وسوف أورد هنا عدة مشاهد للأجواء الانتخابية السائدة بعيداً عن السلطة ووجهة النظر الرسمية، لاسيما وأن الشعب المصري أصبح الآن طليق الرأي وعلى أشد ما يكون من وضوح في التعبير عن وجهة نظره في كل ما يدور في وطنه ودون رقيب. كان المشهد الأول في جريدة «الأهرام» بشارع الجلاء بالقاهرة. وفِي مكتب صديقي رئيس التحرير السابق وقبل موعد الانتخابات بأيام. قال وأنا أستمع إليه بذهول إن اللجنة المكلفة بإعداد الدستور ارتكبت خطأ فادحاً في حق مصر حين حددت فترة الرئاسة بأربع سنوات وإن قصر المدة على أربع سنوات لم يكن منصفاً، وإن عمرو موسى رئيس اللجنة لم يكن موفقاً وإن قناعته السياسة المبنية على معرفته بالنموذج الأميركي جعلته يميل إلى خيار لا يمكن تطبيقه على البيئة السياسية المصرية. وقال إن النموذج الفرنسي كان يمكن أن يكون الأفضل لمصر لأن أي مشروع إصلاحي يحتاج إلى وقت كاف لتطبيقه واختبار صلاحيته. إن تعليق ذلك الصحفي الكبير يعد اعترافاً بإنجازات السيسي وحرصاً على منح الرئيس مزيداً من الوقت لإنجاز مشروعه الحضاري الكبير. المشهد الثاني يأتي على شكل شهادة موثقة كتبها الصحفي الكبير صلاح منتصر أورد فيها عدداً من المعلومات عن السيسي ربما لم يتطرق لها أحد من قبل، ربما لمعرفة الناس برغبة الرئيس في عدم استخدام الإعلام وسيلة للإشادة والتمجيد الذي صار أمراً مألوفاً لدى الكل، وقد عُرف عنه أنه لا يروق له استخدام الإعلام في الترويج لشخصه على طوال مدته الرئاسية السابقة. يقول منتصر إنه ولأول مرة في تاريخ الرئاسيات المصرية وربما العربية، ينزع الرئيس صوره المعلقة على جدران المكاتب في المؤسسات الحكومية والدوائر الرسمية التي ظلت مخصصة لكل رئيس ومنها ما استوطن تلك الواجهات لعشرات السنين كما هو الحال مع حسني مبارك. وبذلك يكون السيسي الرئيس المصري الوحيد الذي وجّه بعدم بث أي أغنية وطنية يتردد فيها اسمه كما كان الحال مع أسلافه وأن التغني بحب مصر هو الاختيار الصحيح، وهو ما يحدث فعلا الآن، فليس في المكتبة الحديثة للأناشيد المصرية أغنية واحدة تمجد السيسي، ولم يعد مألوفاً سماع مثل تلك الأغاني التي تبدأ بعبارة: ياحبيب الشعب وَيَا حبيب الملايين. وحتى الصور الانتخابية بدت محدودة العدد وكذلك الصور المعلقة الآن في شوارع القاهرة لم تضعها جهات حكومية بل تطوع بعض المواطنين بوضعها للتعبير عن حبهم الكبير للسيسي. المشهد الأخير جاء صباح اليوم الأول للانتخابات وترددت تفاصيله بين الناس طوال اليوم. فقد فوجئ المارة بقرب مقار التصويت بعدد من الطالبات المتطوعات لإرشاد الناخبين إلى موقع الاقتراع. وقد ظهرن وهن يرتدين قمصاناً طبعت عليها صورة الرئيس. وفجأة شاهد الناس بعد قليل نفس الفتيات بقمصان مختلفة، ويقال إن الرئيس شاهدن في البث المبكر وأعطى تعليمات بتغيير القمصان بصورة الرئيس على الفور وفهم الناس أنه هو الذي أعطى الأوامر قبل أن يبدأ الناس في الإدلاء بأصواتهم. هكذا يكون السيسي متميزاً في إنجازاته وفِي سلوكياته التي يتعامل بها مع أفراد شعبه. ووفق تعليق أحد المواطنين فإن تمجيد مصر هو ديدنه الأول وإن سمعته وتواضعه وصدقه مع الناس حجزت له مكاناً عالياً في قلوب المصريين. والشيء الأكثر تداولا بين المواطنين المصريين يتجه إلى خيار استمرار الرجل في قيادة مصر في المرحلة القادمة حرصاً على استكمال مشروعه الحضاري الذي بدا واضحاً للعيان أنه مشروع عملاق وعلى درجة عالية من الطموح. فمصر الآن تسير في الاتجاه الصحيح، والمؤشرات الاقتصادية تبشر بخير وبمصر جديدة لم تكن قبل السيسي تخطر على بال أكبر المراقبين الاقتصاديين وخبراء التنمية. يكفي أن البورصة المصرية تنفرد بميزة الارتفاع المتوالي طوال السنوات الماضية وهي ميزة انفردت بها بين كل البورصات العربية والعالمية. الحملة الانتخابية التي شهدتها المدن المصرية لم تكن مصممة في مجملها لإقناع الناس بانتخاب السيسي، بل كانت مكرسة لإقناع المصريين بأهمية الإدلاء بأصواتهم كسلوك حضاري يتسق مع نزعة النهوض التي تشغل بال المصريين شعباً وحكومة. إذن يمكن أن نؤكد بأن السيسي «غير» وأن مصر الآن «غير»!