عادة ما يسارع الرؤساء الأميركيون الجدد في بداية ولايتهم لتحشيد إداراتهم بالشخصيّات المقرّبة ودعاة الفكر المثالي القويم. وبعد ذلك بقليل، وبعد أن يكتشفوا أنه لا مناص من إعادة النظر في تلك التعيينات بسبب معاناتهم من أداء بعض المعيّنين، يسارعون لإقالتهم واستبدالهم بشخصيات أقل ميلاً للتفكير النظري وأكثر قدرة على التطبيق الحرفي ويتميزون بالكفاءة العملية. أما الرئيس دونالد ترامب، فقد فعل ذلك، ولكن بطريقة معكوسة. فهو يطيح بكل الأشخاص الذين يعارضون ميوله الخاصة، ولو بأقل التفاصيل أهمية، ويستبدلهم بآخرين من هواة التنظير السياسي والظهور المتكرر على شاشات التلفزيون. وقد استقال «جاري كوهين» الذي شغل منصب مدير المجلس الاقتصادي الوطني، احتجاجاً على قرار ترامب بفرض تعرفات جمركية على الواردات الأميركية من الفولاذ والألمنيوم. والآن، أضاف الرئيس تعرفات جمركية جديدة على البضائع الصينية المستوردة. وتم استبدال «كوهين» بمذيع الأخبار اللامع في قناة CNBC التلفزيونية «لورانس كودلو». وكان ترامب أيضاً قد أقال قبل أيام وزير خارجيته ريكس تيلرسون لمجرّد أنه كان يعارض رغبته بإنهاء العمل بالاتفاقية النووية مع إيران. واستبدله بمدير وكالة المخابرات المركزية «مايك بومبيو»، وهذا الأخير هو الذي تنصّل من الاستنتاجات التي سبق أن أكدتها وكالته حول حقيقة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 ونفاها نفياً قاطعاً. والآن، جاء دور الجنرال «هربرت ريموند مكماستر» الذي يُعدّ واحداً من ألمع المفكرين الاستراتيجيين العسكريين حيث تم استبعاده من منصبه كمستشار للأمن الوطني واستبداله بمقدم البرامج الحوارية في قناة «فوكس» التلفزيونية «جون بولتون» والذي ينتظر منه أن يمتثل لغرائز ترامب بدلاً من التصدي لها. وفي حقيقة الأمر، كان هناك الكثير مما يمكن للجنرال «مكماستر» أن يفعله لإدارة ترامب. وبالرغم من النصيحة المختصرة التي وجهها للرئيس، وكانت على شكل تحذير مكتوب جاء فيه: «لا تهنئ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بفوزه في الانتخابات المزوّرة»، إلا أن ترامب آثر توجيه التهنئة لبوتين. وبالرغم من الاعتراف الذي لا يقبل الشك الذي أعلنه «مكماستر» حول حقيقة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، فإن ترامب لا يزال يشكك فيه. ولقد حاول «مكماستر» لفت نظر ترامب للأخطاء التي تنطوي عليها طروحاته الغريزية، وإقناعه بضرورة تطبيق المادة الخامسة من القانون الداخلي لحلف «الناتو» للدفاع المشترك بين الدول الأعضاء، والمصادقة على الاتفاقية النووية مع إيران. وكان ترامب يشعر أن «مكماستر» لا يدعه يلعب دور «القطب الأوحد» الذي يفضّله على الرغم من الانتقادات التي وجهها له أصدقاؤه القدامى من أنه يبالغ بمحاباة ترامب للدرجة التي بات معها عاجزاً عن فعل أي شيء. ويشتهر «بولتون»، خليفة «مكماستر»، بسمعته كإنسان قاسٍ وبعدائه الذي لا يتزحزح للمعاهدات والمنظمات الدولية، والذي يتجاوز العداء الذي يكنّه لها المحافظون المتشددون. وهو الذي سبق أن فشل في الحصول على موافقة الكونجرس في عهد الرئيس بوش الابن لتعيينه مندوباً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة. وجاء الرفض حتى من مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون أنفسهم. وكانت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ قد استمعت لشهادة بالغة التفصيل تفيد بأن بولتون الذي كان وكيلاً لوزارة الخارجية، أثار الرعب في أوساط ودوائر الاستخبارات عندما تبجّح بمعلومات تعوزها الأدلّة، ومفادها أن كوبا تنفذ برنامجاً لصنع ترسانة من الأسلحة البيولوجية، وبأن العراق كان يعمل على تطوير أسلحة الدمار الشامل. وجاء الردّ على هذه الأباطيل من مسؤول بارز في وزارة الخارجية الذي قدم أمام الكونجرس شهادة تفيد بأن بولتون ليس أكثر من شخص «متنمّر» تفتقر أقواله للصدقية. وعندما تم تعيينه المتأخر كممثل للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، أصبح مهووساً بتشكيل الأعداء للولايات المتحدة. وعلينا أن نتذكر في هذا السياق أن وظيفة مستشار الأمن القومي تتلخص في التنسيق بين كل الوكالات المعنية بالدفاع والسياسة الخارجية ودفعها جميعاً للعمل بشكل فعال من خلال التعاون فيما بينها. وهذا يتطلب مهارات شخصية فائقة من النوع الذي يفتقر إليه بولتون شخصياً. وهذا يعني أن نظام الأمن القومي في عهد إدارة ترامب أصبحت تعمّه الفوضى وأعراض التشوّش. وسوف نتذكر يوماً ما أن «مكماستر» بذل جهوداً مضنية لإعادة الأمور إلى نصابها ضمن هذا الجهاز الحساس. والشيء المهم الذي يفتقر إليه بولتون هو المهارات الإدارية. وهو يكتفي بتجميل أفكاره المتشددة. وخلال الشهر الماضي، كتب افتتاحية في صحيفة «ذي وول ستريت جورنال» روّج من خلالها لفكرة تنفيذ ضربة عسكرية استباقية ضد كوريا الشمالية. وتلخّصت ردود الخبراء في الاستراتيجيات العسكرية على تلك المقالة، بأن هذا الإجراء ليس مناسباً لأن بيونج يانج لا تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي للولايات المتحدة. ماكس بوت زميل بقسم دراسات الأمن القومي التابع لـ«مجلس العلاقات الدولية» -نيويورك ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»