للإفتاء أهمية كبيرة في إعطاء الشرعية للأفعال، وقليلاً ما يفعل المتشددون شيئاً دون أن يجدوا له مسوغاً من فتوى أو نص يفسرونه وفق مواقفهم.. وكأن المصلحة والضرر ليسا مقياساً للشرعية! والحقيقة أن الإفتاء عمل لا يقوم به إلا علماء الشرع، لذلك أنشئت دار الإفتاء ومنصب مفتي الديار. وقد اتسعت دائرة الإفتاء فأصبح يقوم به من هو غير أهل له، فاضطربت الفتوى وتضاربت، ولم يعد المسلم يعرف الحلال من الحرام إلا بفتوى. وكثير من الفتاوى شكلية ترضي النفس وتجعلها مطمئنة لأفعال بعينها، إذ يقوم الإفتاء على تحقيق المصلحة.. لكن مصلحة الفرد أم الجماعة أم الأمة؟ لقد حدث أخيراً، بعد ارتفاع أسعار حلوى المولد، نظراً لارتفاع أسعار السكر أو اختفائه، أن قاطع الناس شراء هذه الحلوى كي يكسروا احتكار السكر. ونجحت المقاطعة الشعبية إلى حد كبير، وبدأت مصانع الحلوى وتجارها يندبون حظهم، فلجؤوا للإفتاء وطالبوا أحد المفتين بأن يفتي بأن شراء حلوى المولد وأكلها وإهداءها أمر مستحب! وحلوى المولد تقليعة من تقليعات الفاطميين، مثل عروسة المولد، وحصان المولد، وغيرها من الأعياد الشعبية. وما بدأ شعبياً يصبح تراثاً. فحلوى المولد لا شأن لها بالدين، بل عمل تجاري خالص مثل «بليلة عاشوراء». وفي عيد الأضحى، و?المقصود ?منه ليس ?أكل ?اللحوم ?وارتفاع ?أسعارها ?واستيراد ?الأبقار ?والعجول ?والخراف وتكليف الخزينة ?العامة ?عملة ?صعبة.. ?بل ?المقصود ?منه ?كرامة ?الإنسان والحفاظ على حياته. ? ورأس ?السنة ?الهجرية ?ليس ?المقصود ?منه ?إجازة ?للموظفين، ?بل ?تذكر ?بهجرة ?الرسول ?من ?مكان ?اضطهاد الدعوة ?إلى ?مكان حريتها، ?لكن «?لا ?هجرة ?بعد ?الفتح»?. ? لقد ?أخذنا ?الرموز ?الدينية ?بأشكالها ?وليس ?بمعانيها. ?وكذلك ?الأمر ?في ?كثير من ?العبادات. فمن الذي يحدد مناسبة دينية تؤخذ فيها إجازة رسمية، وتكون لها أصناف من المأكولات والحلويات؟ هناك مناسبات دينية أخرى عظيمة، مثل ذكرى نزول أول ما أنزل من القرآن (آية ‏«اقْرَأ») ?وآخر ?سورة ?منه ?عندما ?اكتملت ?الرسالة ?«الْيَوْمَ ?أَكْمَلْتُ ?لَكُمْ ?دِينَكُمْ ?وَأَتْمَمْتُ ?عَلَيْكُمْ ?نِعْمَتِي ?وَرَضِيتُ ?لَكُمُ ?الإِسْلامَ ?دِيناً»، ويوم ?غزوة ?بدر ?كأول ?معركة ?انتصر ?فيها ?المسلمون، ?و«فتح ?مكة» ?التي ?عاد ?فيها ?الرسول ?إلى ?موطن ?الوحي ?وعفا ?عمن ?آذوه.. لكنها جميعاً تمر مراً سريعاً ودون كبير اهتمام! المناسبات الدينية منها المفرح ومنها المحزن، وغالباً ما تكون المفرحة عند أهل السنة، مثل المولد النبوي وليلة القدر والإسراء والمعراج.. والمحزنة عند الشيعة، مثل: عاشوراء واستشهاد الحسين.. إلخ. ولا يشمل الأمر أحداثاً مثل سقوط بغداد في القرن السابع الهجري على أيدي التتار، وطرد المسلمين من الأندلس على يدي فردناند وايزابيلا.. وتختلط المناسبات السياسية المفرحة، مثل ثورة 23 يوليو 1952، ونصر أكتوبر 1973.. بأخرى محزنة مثل هزيمة يونيو 1967. والمناسبات كلها، دينية كانت أم سياسية، أحداث من الماضي، تسترجع كذكرى. ولا توجد مناسبات وقعت في الماضي إلا ولها ردود فعل مستقبلية. فالزمان لا يرجع إلى الوراء كذكرى، ولكنه يتقدم إلى الأمام كأمانٍ وتطلعات. وكل مناسبة دينية أو سياسية هي تجارة بالنسبة للبعض، مثل كعك العيد الذي يستعد له الخبازون قبله بمدة طويلة. وتساعد الدولة على هذه الاحتفالات. ويفرح الأطفال والكبار، النساء والرجال. وهم يقتصدون طيلة العام ليصرفوا بتبذير في هذه المناسبات: يذهب الأطفال إلى الملاهي، والكبار لزيارة الأقارب. والكل يلهو في هذه المناسبات الدينية والسياسية. ويتم توجيه الشكر للحكومة لأنها استطاعت توفير الدقيق والسمن والسكر واللحم. ويُفرِّج الناس كبتهم في هذه الأعياد. ولا ينسون زيارة القبور حتى يشاركهم الأمواتُ الأحياء بهجتَهم.. وتباع الورود والفواكه، ويقرأ المقرئون القرآن على أرواح الموتى، ويختلط الدين بالسياسة والتجارة.. والأولوية للمكسب الدنيوي على الثواب الأخروي. وبعض المفتين جاهزون لمن يستغيث بالدين كي يزيد مكسبه التجاري.. والكل سعيد؛ رجال الدين والسياسة والتجارة. ------------------------- *أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة