نُخْلط في تعليقاتنا عن الأحداث والمواقف بين مصطلحي الحقيقة والواقع، ويبدو هذا أكثر وضوحاً حين يتعلق الأمر بالسياسة ـ الفعل ورد الفعل ـ ويجذبنا التداخل اللفظي إلى عوالم التفسير، بحيث تغدو معاني اللغة هي الركن الشديد الذي نأوي إليه، خاصة حين تُزوَّر الحقائق ويُزيَّف الوعي، ونُزيَّن لأنفسنا سوء أعمالنا، لذلك لابد من الحسم في هذه المسألة لأنه يترتب عليها مواقف تتعلق بتوجيه المسار من جهة، ومن جهة أخرى تحديد المصير، الذي هو عملية غيبيَّة، وتلك هي القضية الأساسية التي سنأتي على شرحها لاحقاً. بعيداً عن مفهوم«الواقع»، ووجوده ـ معنى واصطلاحاً وفعلاً ـ في تراثنا العربي من عدمه، فإننا سنكتفي هنا بالقول: إنه الكائن، والقائم، والمتحقق، أي كما نراه، وكما هو موجود حولنا، مثال عن ذلك الأمة العربية اليوم في مجملها ـ بغض النظر عن بعض إشعاعات النور المتفرقة ـ في حال من الضعف والهوان والانهزامية والتشتت والتردي، والواقع هنا يأتي مناقضاً للخيال والوهم لجهة اعتقادنا مثلا: بمشاركتنا ـ متفرقين ـ في صناعة القرار السياسي على المستوى العالمي. على الصعيد العملي يتداخل مفْهُومَا«الواقع والحقيقة» كّوْنَهُما في دلالتهما الشائعة غالباً ما يستندان على معيار الواقعية، ويُكوِّنان معاً وجوداً قابلاً للإدراك الحسي المباشر، أو قابلاً للتحقق الواقعي، ولهذا نجد الأحاديث اليومية، وأنواع الخطاب المختلفة، خاصة الخطاب السياسي، تعتبرهما أمراً واحداً، لكن الحقيقة ليست هي الواقع، فمثلاً حقيقة العرب أنهم أمة واحدة ـ مهما تعددت مجتمعاتهم واختلفت أنظمتهم وتعددت لهجاتهم وتباينت ثقافتهم، وأيضاً مهما أقاموا من حواجز على الأرض وداخل الأنفس وفي القلوب، ومهما أخذتهم العزة بالإثم فبحثوا عن انتماء وأصول وهمية خارج العروبة فتكسروا، كما هم اليوم ـ أحاداً، وهذا يعني أن حقيقة العرب بما يُظِّلِلُهم من حماية سماوية بدستور دائم، يختلفون كلياًّ عن واقعهم الراهن، فحقيقتهم كانت قبلهم، وهي معهم اليوم في أعماقهم، وستبقى بعدهم. الكلام السابق يتناقض مع ما يروّج له اليوم من خطاب سياسي يجتاح معظم الدول العربية، ويقدم باعتباره حقيقة، لكنه في حقيقته غيب، والغيب ـ كما هو في مختلف التعريفات ـ«كل حقيقة لا يدرك طبيعتها العقل أو لا يتعامل معها الإنسان بالحواس، حيث لا سبيل إلى معاينتها أو الوقوف عليها، لكنه يدركها كحقيقة، كالملائكة والجن والشياطين والجنة والنار أو كالمستقبل وما سيقع فيه، والروح التي تحيي هذا الجسد عند الإنسان والحيوان هي من علم الغيب أيضاً، ندركها كحقيقة لكن لا سبيل إلى معاينتها أو إدراك طبيعتها». هناك إذن خطاب سياسي عربي ـ بأساليب مختلفة حسب نمط الحكم في كل دولة عربية ـ تقوم فكرته الأساسية على الغيب، في فهم يتناقض ضمنياً مع حركة معظم البشر في النهار، ونسبة أخرى كبيرة منهم في الليل، من أجل أرزاقهم، بطرق مشروعة أو غير مشروعة في ثقافاتهم ومعتقداتهم، لا علم لهم بما سيقع في اللحظة المقبلة، وماذا سيحققون أو ينجزون؟ ومتى؟، دون أن تؤثر مثل هذه الأسئلة على الخطط المستقبلية والأعمال المتحققة في الحاضر. الغيبُ في ديننا هو علم يختص به الله سبحانه وتعالى دون غيره من خلقه، وإظهاره لبعض الغيبيات لرسله ومن ثم لنا نحن البشر لا يعني تحويل الآمال السياسية إلى غيبيَّات، كما لا يحول دون إدراكنا نحن العرب لثلاث قضايا كبرى، وهي: أن واقعنا منفر ومستفز، وأن حقيقتنا حماية وعزة لنا، وأن غيبنا مشترك مع كل البشر، وهو الحقيقة الوحيدة الثابتة، فلنسعى لتحقيق المجهول ـ دون تعصب له ـ بما هو معلوم، ففي ذلك راحة للجميع. * كاتب وصحفي جزائري