إن تمثلت مفاجأة انتخابات إيطاليا لعام 2013 في «حركة النجوم الخمسة»، فإن مفاجأة انتخاباتها التي جرت الأسبوع الماضي تمثلت في حزب «رابطة الشمال» اليميني الذي تصدر تحالف اليمين الحائز على أكبر أغلبية نسبية في البرلمان الجديد. لذلك سارع زعيمه ماتيو سالفيني للمطالبة بأولويته في قيادة حكومة جديدة قائلاً: «على تحالف اليمين أن يشكل حكومة جديدة، ونحن في (رابطة الشمال) من سيترأس هذه الحكومة، كوننا جئنا في المرتبة الأولى». ورغم أن حزب سالفيني لم يحقق نسبة 40% من الأصوات التي تؤهله لتشكيل الحكومة، فقد استطاع فرض نفسه على الساحة السياسية الإيطالية، واضعاً إياها أمام مستقبل غامض، كما تسبب في صدمة لمؤيدي الاندماج الأوروبي. فمن هو زعيم «رابطة الشمال»؟ وما حجم فرصه في ترؤس الحكومة الإيطالية القادمة؟ ماتيو سالفيني سياسي إيطالي وعضو البرلمان الأوروبي، وزعيم حزب «رابطة الشمال» الذي شهد تحت قيادته تحولاً من الخطاب الانفصالي إلى خطاب شعبوي يعادي المهاجرين واللاجئين غير الشرعيين. وقد ولد ماتيو سالفيني عام 1973 في مدينة ميلانو عاصمة لومبارديا بالشمال الإيطالي، لأم ربة منزل وأب يعمل مديراً تنفيذياً لمؤسسة خاصة. وككثير من الساسة الإيطاليين، تلقى تعليمه في مدرسة كاثوليكية وحصل منها على شهادة الثانوية العامة عام 1992، ليدرس الأدب والتاريخ والعلوم السياسية بجامعة ميلانو، لكنه غادر مقاعد الجامعة قبل أن يكمل دراسته، منشغلاً بالعمل السياسي والنشاط الإعلامي، إذ انضم إلى حزب «رابطة الشمال»، وعمل في بعض وسائل إعلامه، خاصة جريدة «بادانيا» اليومية ومحطة «بادانيا ليبرا» الإذاعية في ميلانو. وبهذه السيرة فهو يكسر الصورة النمطية للزعيم السياسي صاحب التعليم الأكاديمي العالي جداً والمتفوق دراسياً. لقد أراد اختصار الطريق مبكراً، لاسميا بعد أن تأثر بمواقف وأفكار الزعيم اليمني المتطرف «أمبرتو بوسي»، إذ بتأثير منه انضم إلى حزب «رابطة الشمال» ولم تتجاوز سنه الـ17، وتم انتخابه في 1993 ممثلاً عن الحزب في مجلس مدينة ميلانو، لتكون انطلاقته الأولى في عالم السياسة. ثم ترأس قائمة «اتحاد منطقة بادانيا» في انتخابات «برلمان بادانيا»، وهو هيئة سياسية غير رسمية أنشأتها «رابطة الشمال» عام 1997، واستطاع تحالف حزبه أن يحصد في انتخاباتها خمسة مقاعد من أصل 210 مقاعد كان يتعين شغلها. ورغم مواقفه المعادية للخيار الأوروبي في السياسة الإيطالية، فقد شغل سالفيني باسم حزبه مقعداً في البرلمان الأوروبي بين عامي 2004 و2006، ثم منذ 2009 وحتى الآن. وتتويجاً لخطوات صعوده داخل حزب «رابطة الشمال»، تم انتخاب سالفيني لزعامة الحزب في 2013 بموجب نتائج انتخابات داخلية أحرزها بنسبة 82% من أصوات الأعضاء، في مواجهة مؤسس الحزب وزعيمه التاريخي «أمبرتو بوسي». ورغم الهزائم الانتخابية التي مني بها الحزب خلال العشرية الأولى من الألفية الثالثة، حيث لم تزد نتائجه على 4%، فقد تم انتخاب سالفيني عضواً في البرلمان الإيطالي عام 2008 ممثلاً عن إقليم لومبارديا، ثم أعيد انتخابه عام 2009، ومن بعد في عام 2013. ولمواجهة مشكلات الحزب والتغلب على تدني شعبيته، بدأ سالفيني يتخلى تدريجياً عن الخطاب الانفصالي الشمالي لصالح خطاب وطني يركز أكثر فأكثر على معارضة الهجرة ومناهضة الاندماج الأوروبي ومعاداة الوجود الإسلامي، ليصبح مثله مثل باقي أحزاب اليمين في الدول الأوروبية الأخرى. وخلال حملته الانتخابية الأخيرة، طالب سالفيني بـ«طرد اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين من كل إيطاليا.. ومواجهة أسلمتها، وإغلاق نحو 80 مسجداً وأماكن للصلاة غير مرخصة»، وقال: «الإسلام لا ينسجم مع القيم الإيطالية»، ووعد حال ترؤسه الحكومة بإبعاد جميع المهاجرين غير الشرعيين خلال 15 دقيقة! ويمثل ذلك الخطاب تحولاً في مواقف «رابطة الشمال»، إذ أصبحت أجندة الرابطة تحت قيادة سالفيني تشدد على موضوعات السيادة الوطنية الإيطالية، ومعاداة المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتكريس الإسلاموفوبيا كنزعة معادية لوجود المسلمين في الغرب، مع مزيد من الحث على التمسك بالهوية القومية الإيطالية، والتشنيع المتواصل ضد خيار الاندماج الأوروبي على حساب السيادة الإيطالية. وجاء ذلك التركيز المباشر على قضايا الهجرة والإسلام والوحدة الأوروبية، لصالح التخلي عن انفصال بادانيا، أي المرجعية الإقليمية والتاريخية والتخيلية لـ«رابطة الشمال». وفي إطار التغير الذي طال أجندة خطاب الحزب، تقدم سالفيني خلال انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2014 ببرنامج مشترك مع مارين لوبن زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي، حيث أعيد انتخابه آنذاك. لذلك فإن سالفيني، مثله مثل لوبن التي سارعت الأسبوع الماضي إلى إرسال «تهنئها الحارة والخالصة» بمناسبة تقدم حزبه في الانتخابات العامة، معجب هو أيضاً بالرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وكثيراً ما حاول جذب أنظار الإعلام إليه مستخدماً تصريحات استفزازية، مثل تلك التي اقترح فيها تخصيص مقاعد للإيطاليين الأصليين في المواصلات العامة! وكثيراً ما استخدم مواقع التواصل الاجتماعي على طريقة ترامب في إيصال رسائله السياسية إلى متابعيه ولاستقطاب مساندين جدد لحزبه. ويؤيد سالفيني خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي يرى أنه المتسبب الأول في كل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها إيطاليا منذ عدة أعوام. بل اعتبر أن اليورو يمثل «جريمة ضد الإنسانية»، لذا كثيراً ما أدان السياسة الاقتصادية لإنجيلا ميركل، والتي «نقلتها إلى الاتحاد الأوروبي فقام بفرضها على إيطاليا»! في الانتخابات التشريعية الإيطالية لعام 2018، وفي إطار تحالف اليمين واليمين المتطرف، قدمت أحزاب «رابطة الشمال» و«فورتسا إيطاليا» (بقيادة برلسكوني) و«أخوة إيطاليا» (بقيادة جورجيا ميلوني، الوزيرة السابقة في حكومة برلسكوني)، قوائم مشتركة في العديد من الدوائر الانتخابية. لكن خلافاً للتوقعات، فقد تقدمت «رابطة الشمال» على «فورتسا إيطاليا» في نتائج الاقتراع، ولم يتقدم عليها أي حزب آخر باستثناء حركة «النجوم الخمس» التي حصدت 32.54% من الأصوات منفردة. ومثّل تقدم الحزبين اختراقاً تاريخياً يهدد مشروع إصلاح الاتحاد الأوروبي، إذ لم يجمع بينهما سوى مناهضة سياسات الاتحاد، لكن عدم تحقيق غالبية واضحة لأي منهما سيقود إلى برلمان معلق، مما يضطر القادة السياسيين الإيطاليين إلى إجراء مفاوضات شاقة وطويلة لقيام حكومة جديدة تحل محل الحكومة الائتلافية بقيادة «الحزب الديمقراطي» الذي خرج من الانتخابات خاسراً، كبقية الأحزاب التقليدية الأخرى التي أصبح المزاج الإيطالي يفضل عليها الأحزاب والحركات الشعبوية، مثل «رابطة الشمال» (في الشمال) وحركة «النجوم الخمس» (في الجنوب). لذا ستحتاج عملية تشكيل الحكومة الجديدة إلى جهد كبير للغاية، خاصة إذا ما أُريد لهذه الحكومة أن تكون مستقرة وفاعلة. وإن لم يغير الحزبان حساباتهما لخوض مساومات ومفاوضات قد تكون طويلة وشاقة، فالبديل سيكون تحالفاً كبيراً يضم الحزبين «الديمقراطي» و«فورزا إيطاليا»، أي تفكك التحالفات التي خاضت انتخابات الأسبوع الماضي وقيام تحالفات جديدة تقود الحكومة، مما يعني إبعاد سالفيني عن الواجهة ولو بشكل مؤقت، بعد أن مثل وجه اليمين المتطرف الذي أثار هواجس مرعبة للاتحاد الأوروبي وأنصاره! محمد ولد المنى