في هذه المرحلة من تاريخ علاقاتها بدول الخليج العربي، وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، تحاول روسيا إيجاد مبدأ سياسة خارجية جديد محوره انتهاج سياسة الموازنة والاستفادة السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والتجارية واستقطاب الاستثمارات من خلال الحلول الوسط والنفس الطويل. وهذا يعني أن روسيا تعمل من ناحية جيو - سياسية على إيجاد توازن لوضعها في الخليج العربي مع وضع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين. ومن خلال المؤشرات المستقاة من التحركات والإيماءات والمشاريع المقدمة من روسيا لدول المجلس يمكن القول بأنها ترى بأن إقامة علاقات قوية مع دول المجلس سيفتح لها طريقاً غير مباشر لجعل دوله، بالإضافة إلى دول عربية أخرى وتركيا وربما إيران تأخذ في الحسبان الدور الروسي في المعادلات الإقليمية للمنطقة العربية وجوارها الجغرافي، أي أن روسيا تريد استخدام أكبر قدر ممكن من قوتها الناعمة في الخليج العربي، وأن تمارس فيه سياسة خارجية قليلة التكلفة، واستراتيجية خالية من المخاطر عند التدخل في خلافات دوله البينية كصانع للسلام، وتقوية نفوذها عبر الوساطات الناجحة، والتنازلات المبررة والحلول الوسط ما أمكن ذلك. من قراءة التوجهات الروسية الحالية نحو العديد من مناطق العالم يتضح بأن روسيا تعتبر الخليج العربي منطقة مهمة جداً من وجهة نظر صناع السياسة الخارجية الروسية ومنفذيها، وتتم معالجة شؤونه من قبلهم كجزء من المحاولات الروسية القديمة والدؤوبة لإيجاد مواطئ قدم في المياه الدافئة الواقعة إلى الجنوب وأقربها هو الخليج العربي. ويتضح بأن روسيا تحاول تقديم نفسها بأن سياستها ترتكز على النوايا الحسنة وكوسيط سلام، وبأن لديها مشروعها الخاص لخفض سباق التسلح التقليدي، ومنع التسلح النووي والدفع بالخليج العربي إلى الحياد. وربما أنه يمكن القول بأن روسيا تنظر بقلق شديد إلى النوايا الغربية، وتتوجس خيفة من أن أهداف دول الغرب ذات تأثيرات مستقبلية خطيرة عليها. ومن هنا تأتي التوجهات الروسية نحو إيران كموازن لمصالحها، ما يدفعها إلى دعمها بالأسلحة التقليدية، وعلى صعيد برنامجها النووي. وما نعتقده هو أن السياسة الخارجية الروسية تجاه دول المجلس لا تزال غامضة في العديد من جوانبها، ومن زاوية البواعث التي تقف خلف مبادراتها السياسية وتصورات. لذلك فإنها لا زالت صعبة لكي تفك رموزها بشكل صحيح. وربما أن بطء سير علاقاتها مع دول المجلس يعود إلى أسباب جوهرية أهمها قيامها بدعم برنامج إيران النووي، وبيعها كميات ضخمة من الأسلحة التقليدية المتطورة، ووجود عدد من المواقف السلبية تجاه الأقليات المسلحة في روسيا والشيشان، وتدخلها العسكري المباشر في مصلحة نظام بشار الأسد في سوريا. ونعتقد أيضاً بأن جزءاً من الأهداف الروسية في التوجهات الجديدة نحو الخليج العربي هو تكوين الانطباع بإمكانية تبادل مصالح واسعة بين الطرفين، لذلك فإن دول المجلس تستطيع عدم تجاهل هذه التوجهات، والقيام بالنظر في الجوانب الإيجابية الواردة فيها بتمعن لمعرفة ما إذا كانت توجد جوانب يمكن الاستفادة منها والاستثمار فيها مستقبلاً. والواقع هو أنه توجد قضية أساسية يمكن فتح ملفها مع روسيا تتعلق بالتسلح النووي الإيراني، فنظراً إلى قلق دول المجلس من الدعم الروسي لبرنامج إيران النووي يمكنها الاستفادة من التوجهات الروسية نحوها عن طريق التفاوض المثمر مع موسكو لإثنائها عن المضي قدماً في دعم هذا البرنامج، وربط ذلك بإمكانية إقامة علاقات طبيعية واسعة ومتقدمة وراسخة معها، فروسيا لاعب مستقبلي مهم في أمن الخليج العربي شاءت الأطراف الأخرى أم لم تشأ. د. عبدالله جمعة الحاج* *كاتب إماراتي