يصاب سنوياً نحو 14 مليون شخص بالسرطان للمرة الأولى، ويلقى قرابة التسعة ملايين منهم حتفهم بسبب مرضهم، مما يجعل الأمراض السرطانية مسؤولة عن 16 في المئة من الوفيات السنوية بين أفراد الجنس البشري، أو واحد من كل ست وفيات، ويضعها في المرتبة الثالثة على قائمة أسباب الوفيات، بعد أمراض القلب والشرايين، والأمراض المعدية والطفيلية. وأمام هذا الوضع يستثمر العلماء والأطباء الكثير من الوقت، ويبذلون مجهوداً كبيراً من خلال الأبحاث والدراسات، لمعرفة الأسباب التي تؤدي أساساً للإصابة بالسرطان من الأساس، ضمن استراتيجية وقائية هادفة لمنع الإصابة من خلال تجنب عوامل الخطر، أو على الأقل الحد من تأثيرها. وفي الوقت الذي أصبح معروفاً ومؤكداً أن التدخين يعتبر أهم أسباب الإصابة بالسرطان، ويتحمل مسؤولية 22 في المئة من مجمل الوفيات، يتزايد الاهتمام والإدراك بدور الغذاء ونوعيته، ليس فقط في زيادة احتمالات الإصابة، وإنما أيضاً الحد من انتشار المرض وتطور مضاعفاته. حجم هذا الدور قد يبلغ 30 أو 35 في المئة من وفيات الأمراض السرطانية، حسب بعض التقديرات، مما يجعل الغذاء -السمنة خصوصاً- سبباً أهم من التدخين في زيادة احتمالات الإصابة بالسرطان. ولكن رغم هذه العلاقة الوطيدة بين الغذاء والسرطان، لا يمكن القول إن التوصيات الطبية في هذا الشأن واضحة ومحددة، كما أن القليل منها يعتمد على أدلة علمية قوية واضحة ومؤكدة. وإن كان من الثابت والمؤكد، كما ذكرنا سابقاً، أن السمنة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمراض السرطانية، وعلى المنوال نفسه تناول المشروبات الكحولية. وبوجه عام، ترتبط كمية السعرات الحرارية التي يتناولها المرء، وتؤدي بالتبعية لزيادة الوزن والسمنة، ارتباطاً وثيقاً بالسرطان، فكلما زادت كمية السعرات زادت احتمالات الإصابة وانتشار المرض، ولذا يوصى بخفض المتناول من المشروبات الغازية والعصائر المحلاة بالسكر، كخطوة أولية لخفض الوزن وخفض احتمالات الإصابة. ومنذ عام 2015، ومع إعلان منظمة الصحة العالمية، من خلال الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (The International Agency for Research on Cancer)، بأن اللحوم المصنعة يمكن أن تصنف كمواد مسرطنة، كما يحتمل أن تكون اللحوم الحمراء في شكلها الطبيعي هي الأخرى مسرطنة، وإن كان لا يوجد دليل كافٍ للتأكيد على هذه التهمة الموجهة للحوم الحمراء. ومن بين الأمثلة على اللحوم المصنعة الشائعة: «الهوت دوج»، والنقانق أو السجق، والبولوبيف، والسلامي، واللحوم المعلبة، والخلطات التي تحتوي على لحوم. وجدير بالذكر هنا أن مصطلح اللحوم المصنعة لا يقتصر فقط على اللحوم الحمراء، بينما يشمل أيضاً الأعضاء الداخلية، أو اللحوم البيضاء (لحوم الطيور والدواجن) إذا ما خضع أي منها للوسائل والأساليب سابقة الذكر. الجانب الآخر من العلاقة بين الغذاء والسرطان، أو الجانب الإيجابي، يتجسد في نتائج الأبحاث والدراسات التي تظهر أن بعض مكونات الغذاء قد يكون لها دور في الحد من سرعة نمو الأورام السرطانية، ومن انتشار الخلايا السرطانية لأجزاء أخرى من الجسم. آخر هذه الدراسات أجريت على الحيوانات، ونشرت في العدد الأخير من إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Nature)، وأظهرت أن الحمض الأميني المعروف باسم «الإسبراجين» (asparagine)، الموجودة في نبات الهليون، ولحوم الدواجن، والمأكولات البحرية، وغيرها من الأطعمة، كان له تأثير مثبط بشكل ملحوظ على أورام الثدي. ففي هذه الدراسة والتي أجريت في معهد أبحاث السرطان بجامعة كامبريدج ببريطانيا، تمت تغذية فئران مصابة بسرطان الثدي بغذاء مرتفع المحتوى من الإسبراجين، وبدلاً من أن تتوفى الفئران في غضون أسابيع كما كان متوقعاً، عجزت الخلايا السرطانية أن تنتشر بنفس الشكل والمعدل المعتاد. وعلى المنوال نفسه، أظهرت دراسة أجريت العام الماضي في جامعة جلاسجو بأسكتلندا، أن خفض محتوى الغذاء من بعض الأحماض الأمينية (Serine & Glycine)، أثرت على معدل نمو وتطور سرطان الدم المعروف بالليمفوما، وعلى سرطانات الجهاز الهضمي. ولذا بناء على هذه الدراسات، وغيرها، على ما يبدو أن بعض أنواع الأمراض السرطانية تحتاج بشكل قوي لكميات من بعص العناصر الغذائية، وهو ما يفتح الباب لعلاجها، أو على الأقل الحد من نموها ومنع انتشارها من خلال تجويعها وحرمانها من هذه العناصر الغذائية. ويتضح من هذا كله، وغيره، أن الطب الحديث لا زال على أعتاب إدراك العلاقة بين العناصر الغذائية المختلفة، وبين زيادة احتمالات الإصابة بالأمراض السرطانية، أو الوقاية منها والحد من نموها وانتشارها، وهي العلاقة التي يحمل فهم مختلف جوانبها، آمالاً كبيرة في مواجهة واحد من أكبر قتلة الجنس البشري في العصر الحالي.