خيم قلق بالغ من احتمال حدوث مواجهة عسكرية بين قوى عظمى وإقليمية على مؤتمر ميونيخ للأمن في دورته الرابعة والخمسين التي عُقدت من 16 إلى 18 فبراير الجاري. ظهر هذا القلق بدرجات متفاوتة، وصياغات متعددة، في كلمات عدد معتبر من المتحدثين، أو في تصريحات أدلوا بها. لكن رئيس المؤتمر الدبلوماسي الألماني «فولفجاج أشنيجين» كان الأكثر صراحة في التعبير عن هذا القلق. فقد حذر من اندلاع مواجهة عسكرية بين قوى عظمى. ورغم أنه لم يحدد هذه القوى، يمكن أن نستنتج من سياق تحذيره أنه قصد أميركا وروسيا، فقال ما معناه إنه لم يحدث منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، أن كان خطر اندلاع مواجهة عسكرية بين قوى عظمى كبيراً بهذه الدرجة. كما خص أميركا وروسيا بالذكر عندما تحدث عن أسباب ازدياد خطر هذه المواجهة، إذ ركز على تدني مستوى الثقة بين القادة في الدولتين إلى حد يمكن أن يؤدي إلى سوء فهم وتقدير وخطأ في الحسابات، ومن ثم اندلاع معارك غير مرغوب فيها. وربما كان أشينيجين متأثراً بالتطورات المتسارعة في سوريا قبيل المؤتمر، بدءاً بإسقاط طائرة روسية من طراز «سوخوي 25» فوق أدلب في 3 فبراير، وصولاً إلى إسقاط طائرة إسرائيلية من طراز «إف 16» في المنطقة الحدودية مع سوريا في 12 من الشهر نفسه. ومن الطبيعي أن تدفع ملابسات هذين التطورين، وما حدث بينهما، إلى التساؤل عن احتمال تحول حوادث من هذا النوع إلى مواجهة تتورط فيها واشنطن وموسكو. فقد بات مرجحاً أن الطائرة الروسية أُسقطت بصاروخ أطلقه فصيل سوري متحالف مع واشنطن، وليست «جبهة النصرة» الإرهابية، بخلاف ما كان معتقداً. وأعقبت تلك العملية ضربة جوية أميركية (باسم التحالف الدولي) في 10 فبراير ضد قوات متحالفة مع النظام السوري في دير الزور، وسقط فيها عدد غير معروف من الروس العاملين مع هذه القوات بشكل غير رسمي، عن طريق شركة أمنية خاصة. كما أن ملابسات إسقاط الطائرة «إف 16» ترجح وجود ضوء أخضر روسي للنظام السوري وحلفائه لاستخدام الدفاعات الجوية في حالة حدوث هجوم جوي إسرائيلي، بخلاف ما كان عليه الحال من قبل عندما كان هناك تفاهم بين موسكو وتل أبيب برعاية أميركية على تنفيذ إسرائيل هجمات لمنع نقل أسلحة إلى «حزب الله» أو إقامة منشآت عسكرية ومخازن أسلحة تابعة لإيران قرب الحدود. غير أن مؤشرات تصاعد التوتر بين أميركا وروسيا لا تقتصر على وقائع ميدانية في سوريا، بل تشمل ازدياد التسلح على النحو الذي نبه إليه تقرير الميزان العسكري في العالم لعام 2017، الذي أصدره المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية?(?IISS?) ? في ?لندن ?قبل ?يومين ?على ?مؤتمر ?ميونيخ. رصد التقرير الاتجاهات الرئيسية لتطور الأوضاع الاستراتيجية عام 2017، ومن بينها اتجاهان يحملان مغزى مهماً؛ الأول هو تحديث الترسانات النووية، وخاصة الترسانة الأميركية، وازدياد قلق موسكو مما تعتبره نقض واشنطن بعض التزاماتها في معاهدة «ستارت 3» لعام 2010 بخصوص خفض الحدود القصوى للرؤوس الحربية الهجومية الاستراتيجية وآليات إطلاقها في البلدين. والاتجاه الثاني هو استمرار روسيا في تحديث قدرتها العسكرية بأقصى درجة تستطيعها في ظل الموارد المتاحة بعد اضطرارها لتخفيض ميزانية الدفاع، فضلاً عن استثمار انخراطها في الحرب السورية لاستخلاص نتائج ميدانية بشأن تطوير قدراتها، وليس اختبار أسلحتها فقط. ويبدو معدو التقرير أقل قلقاً من احتمال نشوب مواجهة عسكرية عالمية. فهم يرون أن مواجهة أميركية روسية ليست وشيكة، وغير حتمية أيضاً. لكنهم لم يغفلوا مؤشرات تفيد بأن أميركا وروسيا شرعتا، وكذلك الصين، في الاستعداد لاحتمال حدوث مواجهة عسكرية. والملاحظ، هنا أن تحليل معدي التقرير لهذا الاحتمال يشمل الصين أيضاً. وفي كل الأحوال، يبدو أن عام 2018 يحمل في طياته ازدياداً في خطر نشوب مواجهة عسكرية ما، على النحو الذي طرحته في المقال المنشور في «اجتهادات» في 18 يناير الماضي تحت عنوان «حروب 2018». ولكن هذه المواجهة قد لا تكون مرتفعة الحدة، أو واسعة النطاق، وربما تحدث بين قوى إقليمية فقط، لكنها تدق جرس إنذار يصعب إغفاله في ظل وجود نقاط تماس يشوبها التوتر في سوريا والعراق واليمن.