عادة ما تحتفظ الذاكرة الإنسانية ببصمات راسخة تركتها شخصيات تتسم بقدرات فائقة وغير طبيعية، كنتيجة لما تمتلكه من صفات ومواهب عديدة في مجال البناء الحضاري واستقراء المستقبل في حياة المجتمعات والدول.. أي ما تجمله العلوم النفسية والاجتماعية في كلمة «الكاريزما». إن هذا النمط من الشخصيات الفذة في قدرتها على الاستشراف والإلهام، وعلاوة على تمتلكه من عزيمة وصبر كبيرين لتنفيذ ما تعتقده صالحاً ومناسباً لرؤيتها ولمرحلتها من التاريخ وما يليها من مراحل، فإنها تؤمن بالرسالة الإنسانية الملقاة على عاتقها، باعتبارها مرتكزاً قوياً للعمل والبناء وبلوغ الطموحات العامة والوصول إلى ما هو أبعد منها وأكثر رسوخاً. ومثل هذه الشخصيات العظيمة تشارك في يوميات الناس كي تكون قريبة من واقعهم ومدركة أكثر لهمومهم، وغالباً ما تكون قد مرت في مراحل معينة بتحديات وصعوبات مختلفة، لكنها بالعزيمة استطاعت أن تجتازها وأن تحقق رسالتها أو أهدافها العامة، لذا نجدها باقية في وعي شعوبها وفي وعي الإنسانية ككل على مستوى العالم بأسره. ولو استعرضنا نماذج تلك الشخصيات عبر التاريخ، فسنجد أن عددها ليس بالكثير مطلقاً، وأنها من النوعية التي عمرت الأرض وبنت الإنسان وتركت بصمة إيجابية عميقة وباقية على مدى الدهر. ومن هذه الشخصيات القليلة في تاريخ العالم كله القائد المؤسس المغفور له، بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. ويكاد الشيخ زايد ينفرد بين قادة العالم جميعاً بأنه الشخصية الوحيدة التي يتفق الجميع على إنسانيتها وعلى رسوخ قيم البناء والعمران في رؤيتها وممارستها، سواءً قبل أن يتولى مقاليد الحكم أو خلال توليه مقاليد القيادة، أو بعد وفاته، وذلك نتيجة للرؤية الإنسانية التي طبعت جميع جوانب حياته، فكل مشاريعه مرتبطة بالإنسانية، حتى الأعمال السياسية التي كان يمارسها كانت بهدف الإنسان ومن أجل خدمته وإسعاد حياته. كما يعتبر الشيخ زايد رائد التنمية الشاملة في دولة الإمارات والمنطقة، حيث استطاع أن يشيِّد أساساً يمكِّن للإنسان من النجاح وتحقيق الازدهار في مواجهة التحديات المستقبلية. وقد قام بالعديد من المبادرات التي تخدم الإنسان؛ منها الاهتمام بالحياة الطبيعية، عبر تحويل أرض صحراوية إلى واحات خضراء بغرس الأشجار ورعاية المزروعات والاهتمام بالنباتات والحيوانات، علاوة على الإسهام الصادق في العمل على إيقاف الحروب ضد الإنسانية؛ مثل حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، والحرب الأهلية الصومالية، وتقديم مساعدات إنسانية لا حدود لها، ولا ترتجى منها أي مصلحة سياسية أو اقتصادية لمختلف المحتاجين في بقاع المعمورة، حتى عرفت دولة الإمارات بأنها تعطي دون انتظار مردود، وقد أصبح ذلك الأسلوب نهجاً راسخاً لديها وجزاءً من الدبلوماسية الخارجية يتم تدريسه في الأكاديميات ويتمرس عليه منفذو السياسات. إن إقامة وتدشين صرح زايد قبل يومين، على مدخل الكورنيش، المنطقة التي تشهد اليوم أكبر إقبال من الجماهير، وقد مثلت ذات يوم تحدياً تنموياً للشيخ زايد استطاع التغلب عليه بمشروع كاسر الأمواج.. هدفه أن تستوعب أجيال الحاضر التي لم تعش فترة الشيخ زايد ما غرسه القائد المؤسس من قيم راسخة وما تركه من آثار باقية، فليس من سمع كمن رأى. وهدفه أيضاً أن تستوعب أجيال المستقبل طبيعة الإنجازات الحضارية والإنسانية لهذه الشخصية الفذة، لاسيما أن هناك دلائل في كل زاوية من هذه الدولة تخبرك عن إنجازات زايد، الشخصية التي لم تكن تعرف للمستحيل طريقاً ولا للفشل نهجاً. كما يأتي تدشين صرح زايد متماشياً مع أجواء عام زايد، وهذا أيضاً مما يجعله متميزاً عن أي وسيلة أخرى (سواء أكانت كتباً أم قصصاً أم أفلاماً) لاستعادة مآثر القائد المؤسس. يمثل صرح زايد سجلاً توثيقياً ثميناً لجوانب من شخصية الشيخ زايد التي تركت أثراً في نفوس شعبه والإنسانية كلها، كما يمثل وسيلة أخرى لإبراز ما كانت تحمله هذه الشخصية من قيم إنسانية جعلت ذكراه وسيرته باقية عند الناس. فهذا الصرح سيكون أكثر من معلم يزوره الناس ليصبح متحفاً تاريخياً متكاملاً في الهواء الطلق. فالمعتاد أن يتم تكريم العظماء بإقامة المعارض والمتاحف، وهذا موجود في دولة الإمارات، إذ هناك متحف الشيخ زايد ومتحف آخر في العين عن حياته، لكن يأتي صرح زايد بمثابة استكمال لتلك الأعمال كلها، حيث سيجد الناس شرحاً وافياً لما أنجزه القائد المؤسس، والأهداف والقضايا التي انشغل بها خلال مراحل حياته المختلفة. تشكل الإنسانية وقيمها عنصراً مهماً في فلسفة زايد في التعمير، إذ بتتبع ممارساته وخطاباته السياسية نجد المواقف والعبارات المتكررة حولها، مثل قوله بأن «الإنسان هو الثروة الحقيقية»، وكذلك مسألة تقديم المساعدات الإنسانية من دون النظر إلى أي اعتبار آخر غير «القيمة الإنسانية».. ولهذا كانت كل الممارسات السياسية للشيخ زايد تنطلق من المنظومة الإنسانية، وهذا ما جعل من سيرته معيناً دائماً لا ينضب، تنهل منه مختلف الأجيال كمصدر إلهام في إعمار الأرض وبناء الإنسان.