جدد الإعلان الأخير للخارجية الأميركية عن نية النقل الفعلي للسفارة الأميركية إلى القدس في مايو القادم، بالتزامن مع الذكرى السبعين لتأسيس إسرائيل، الشجون التي أثارها قرار الرئيس الأميركي في ديسمبر الماضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ويعني هذا الإعلان أن الحسابات الأميركية لحصيلة ردود الفعل التي أحدثها القرار جاءت في صالح المضي قدماً في الاختراق الذي أحدثه هذا القرار، ولم لا وقد اقتصر الضرر الذي ألم بالسياسة الأميركية على مواقف دبلوماسية دولية لم تمثل سوى حالة معنوية لم تلحق أي أضرار مؤثرة بتلك السياسة؟ صحيح أن غضباً شعبياً فلسطينياً قد حدث، وأن الموقف الفلسطيني من الدور الأميركي في عملية التسوية السلمية قد تغير، وأن قرارات مختلفة صدرت من كيانات دولية عديدة ترفض القرار أو تتحفظ عليه على الأقل.. غير أن هذا كله لم يمثل تحدياً أو «عقاباً» حقيقياً للسياسة الأميركية، وكان الموقف الجديد الوحيد هو إعلان السلطة الفلسطينية انتهاء الدور الأميركي في عملية التسوية، وهو موقف منطقي ومطلوب غير أنه لا يخلق مشكلة للسياسة الأميركية وإنما للسلطة الفلسطينية، فإسقاط الدور الأميركي، كما سبقت الإشارة مراراً، يتطلب آلية جديدة، وهنا تكمن المعضلة. فالولايات المتحدة هي القوة الدولية الوحيدة القادرة على الضغط على إسرائيل لكنها منحازة لها بشدة، ولذلك فأي دور أميركي سوف يكون لمصلحتها، أما الآليات البديلة، كالاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة أو أي تنويعة دولية أخرى فهي غير قادرة على الضغط على إسرائيل حتى لو كانت راغبة في ذلك. ويعني ما سبق أنه لا أمل في ظل الأوضاع الدولية الحالية في آلية جديدة تنقذ عملية التسوية بالحد الأدنى. فإذا أضفنا إلى هذا أن الأوضاع العربية الراهنة لا تقدم ظهيراً بديلاً للفلسطينيين، فإن هذا يعني أن الكرة الآن في الملعب الفلسطيني وحده، وأن أي تعويل على بدائل عربية أو إقليمية أو عالمية لا معنى له دون تحقيق نقلة نوعية في الأوضاع الفلسطينية، ومع ذلك فإن ردود الفعل الفلسطينية اقتصرت على مظاهر الغضب الشعبي وفقدان الثقة بالوسيط الأميركي، بل إن ردود الفعل هذه لم ترتق إلى أن تُعبر عن الجسد الفلسطيني بكامله، فلم تشمل اجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني الأخيرة فصيلي «حماس» و«الجهاد»، ولم تُتخذ قرارات جذرية ترقى إلى الخطر الماثل على مستقبل القضية، ولم تجد هذه القرارات «الوسطية» بعد طريقها إلى تنفيذ جدي، ومازال الوضع الفلسطيني بعيداً كل البعد عن الحالة التي يمكن أن يُرجى معها أن يُحدث تأثيراً ما في الموقف الأميركي أو الإسرائيلي. فالمصالحة بين «فتح» و«حماس» ما زالت متعثرة، بل تبدو دائماً وكأنها تعود إلى المربع الأول ومن ثم فأي حديث عن استراتيجية فلسطينية موحدة لإحداث نقلة نوعية في الأداء الفلسطيني ليس وارداً حتى الآن، بل إن الرئيس الفلسطيني في خطابه الأخير في مجلس الأمن الدولي كرر على نحو نمطي الحديث عن الحاجة لآلية دولية جديدة لرعاية عملية التسوية، وكأن ربع قرن من الوهم التفاوضي لم يقنعنا بعد بأنه لا أمل في إحراز أي تقدم في تلك العملية طالما بقي كل شيء على ما هو عليه فلسطينياً. لكل ما سبق فإن الإدارة الأميركية لم تجد أي رادع محتمل لقرارها الأخير بترجمة اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل إلى واقع بالنقل الفعلي لسفارتها إلى القدس، وهي بالتأكيد تشعر بأنها في مأمن من أي رد فعل مؤثر، حتى ولو تصاعدت نبرة الاحتجاج الرسمي الفلسطيني، في وقت تتحدث فيه دوائر أميركية عن قرب اكتمال «صفقة القرن» التي لا شك في أنها سوف تكون بعيدة كل البعد عن الطموحات الفلسطينية. ويكفي أن هذه «الصفقة» تستبعد القدس بداية من عملية التسوية، بل يبدو وكأن ترامب في تصريحاته الأخيرة يفخر بذلك، فهل تفلت السياسة الأميركية هذه المرة أيضاً بقراراتها المستخفة بالحقوق الفلسطينية، أم أن هذه القرارات سوف تدفع الطرف الفلسطيني دفعاً إلى الطريق الصحيح؟