حينما يكون المنتجون الابتكاريون، في أي مجتمع، أحراراً مستقلين بفكرهم، بالضرورة سيكونون منتمين إلى الإنسانية، بمعناها الواسع، وسيكون إنتاجهم عميقاً، يلامس مشاعر الناس ومعاناتهم، ويساعد على تنمية المجتمعات وتطورها، ويصوغ قيماً أخلاقية، تبني الإنسان المنتج، والمحب للأوطان. خلافاً لهذا المنهج، سيكون هنالك منهج آخر، ينتج أدباً وشعراً مختلفاً، منهجٌ لا يشغل نفسه بما يحدث للناس، ولا يلقي بالاً لخسائرهم، الناجمة عن غياب المساواة والعدالة، ولا يهمه الفارق بين حضارتين: حضارة أسسها طغاة تاريخيون، قامت على حاجة المستبد للترف، وحضارة أسسها البشر، قامت على الحاجة للقيم الإنسانية، وحق المواطن في العدل والسلام والأمن. في الفترة ما بين 966 و968 ميلادية، زار مصر، التي كان يحكمها كافور الأخشيدي، أحد أشهر الشعراء العرب في كل العصور، هو أبو الطيب المتنبي، كانت مصر (الأخشيدية) إقطاعية متخلفة (ينهبها أمراء الحرس، وجباة الضرائب، ويعاني أهلها شظف العيش والأوبئة)، لكن عذابات الناس في ذلك العهد، لم تنعكس في أدب تلك الفترة المظلمة، بما في ذلك، شعر المتنبي نفسه، لم يكن يلفت نظر المتنبي سوى شخص كافور، (أما الملايين من الناس الهالكة، رجالاً ونساءً، وأطفالاً متسولين في الشوارع)، فلم يكن المتنبي يلقي إليها بالاً، مبدياً في ذلك عجزاً ظاهراً، في الخروج بشعره، من هذه الزاوية الضيقة، التفكير بكافور. ومر الحال بمرحلتين، كما نقل النقَّاد، الأولى: مدح فيها كافور، واجتهد في نيل عطاياه، بأشعار مسطحة، بدأت بقوله (مولاي، هل في الكأس فضلٌ أناله - فإني أغني منذ حين، وتشربُ). أما المرحلة الثانية، فعاد المتنبي، بعد أن غضب من كافور، فهجاه، واجتهد في إيذاء مشاعره شخصياً، بأشعار أيضاً كانت مسطحة، وانطوت على عنصرية عاليّة، ومنها قوله (لا تشترِ العبدَ، إلاَّ والعصا معه - إن العبيدَ لأنجاسٍ مناكيدُ). ورغم أنني أكن للمتنبي محبة متميزة، لمكانته الأدبية، وابتكاره الشعري غير المسبوق، في كل العصور العربية، إلاَّ أنني أرى أن بناءه الشعري الجميل، سخره في الواقع، لخدمة أفكار ليست لطيفة، فضلاً عن أنها لا تليق بسمو الشعر، فلا اللون الأسمر يعني العبودية، ولا التسوّل على أبواب الطغاة والمستبدين، حرفة إنسانية يمكن احترامها، ولا دعوة النخاسين ضرب (العبيد) بالعصا، وصية صائبة من نفسٍ حرة، فشاعر بمستوى المتنبي، متطور تقنياً جداً، لا يقول سوى ما ردده تجار الرقيق، في أسواق النخاسة، منذ عصر الرومان، فقد كان (كاتو)، وهو خبير زراعة، قد أعلن في القرن الثامن قبل الميلاد، أن أفضل طريقة لتشغيل الأرقاء في المزرعة، هي أن تقيّد أرجلهم بسلسلة من حديد. هذا الموقف المنحرف، أساء بصورة بالغة إلى الشعر الجميل للمتنبي. والشعر إذا لم يكن إنسانياً، ينطوي على حكمة ومعرفة، وإنْ نسبياً، ويتحسّس آلام الناس ومشاعرهم، في مواقفهم وحالاتهم المختلفة، فهو بالضرورة سيكون سلاحاً بتاراً، من أسلحة الاستبداد، ممن عرفتهم الحضارات البشرية المتعاقبة، منذ ولادتها في سومر وشمال أفريقيا. فالأدب الموصوف وُجد لتغيير الواقع، هو لم يكن كذلك في الحقيقة، بل وجد - حينذاك - لتبرير وجهة نظر الديكتاتوريات الشمولية، وأوجبتها أساطير لا علاقة لها بالواقع، مثل (الكهنة والعالم السفلي، وعلاقة الملك بالآلهة، وقوة السحر الخفية، وحاجة النيل للزواج بعذراء). أفكارٌ كهذه، لا يمكنها تغيير الواقع، ولن تساعد على تطوير أي مجتمع، بل سيكون همها منصباً، على تفسير الأسطورة، باعتبارها عوالم غامضة.