يرى خبراء الطاقة أن منطقة البحر المتوسط ستكون إحدى أهم مناطق مكامن الطاقة العالمية بعد الاكتشافات الأخيرة من الغاز الطبيعي، التي يبدو أنها ستكون قادرة على تحويل بوصلة السوق العالمية وتحويل دول كانت مستوردة للغاز إلى مصدرة له. إلا أن تطور الأحداث سريعاً حول ادعاء كل دولة أحقيتها في الحصول على الغاز ربما يقود المنطقة إلى توتر سياسي جديد، ويخشى أن يحول تلك النعمة الجديدة إلى نقمة على منطقة الشرق الأوسط التي تدعو فيها خبرات التاريخ الكثيرة وتجاربه المريرة إلى التحلي بالحد الأقصى من الحكمة وتوخي حسن التصرف، لتجنب أي تصعيد أو سبب صراع جديد، وهذا ضروري أيضاً عملياً لمعرفة كيفية توظيف الغاز، وتحقيق الاستثمار الأمثل في الطاقة، والاستفادة من عائداتها على المنطقة، وفتح أسواق جديدة للغاز في العالم. فالاكتشافات الجديدة خلقت صراعاً، معلناً أو صامتاً، حيناً، بين بعض الدول المشتركة في المياه الإقليمية التي تقع فيها حقول الغاز تلك، وبدلاً من أن تكون هذه الاكتشافات سبباً في خلق صراعات، فالأولى أن تكون سبباً للتعاون والتضامن وباباً للتحالفات والائتلافات الاقتصادية الجديدة في المنطقة التي تقود بدورها للحفاظ على الأمن والاستقرار الدولي وخاصة أن تلك الدول تطل على قارات العالم القديم الثلاث، الآسيوية والأفريقية والأوروبية. وما يهمنا كعرب هنا بالدرجة الأولى في تلك التحالفات هي مصر «أم الدنيا» وظهر البيت العربي وسنده، فلابد من تحقيق الغايات المثلى ليتمكن المصريون من الاستفادة من مواردهم الجديدة، وتعزيز التعافي الاقتصادي الكامل من جراء الخسائر المتلاحقة التي منيت بها مصر بعد قلاقل ومشاكل «الربيع العربي» وأحداثه منذ عام2011 وحتى سقوط حكم جماعة «الإخوان» الإرهابية، حيث ما زالت مصر تدفع بعض تبعات وأعباء تلك الفاتورة الاقتصادية التي تراكمت عليها في تلك الأثناء. وعلى سبيل المثال فقبل تلك الأحداث كانت مصر تصدر الغاز الطبيعي إلى عدة دول مجاورة، وأخرى مطلة على البحر المتوسط، وبعد أحداث «الربيع العربي» اضطرت لاستيراده خاصة بعد تزايد الاستهلاك الداخلي وضرورة استمرار استخدام أنابيب الغاز التي تم الاستثمار فيها مسبقاً، والتي أدى التوقف عن استخدامها إلى قضايا تجارية في المحاكم الدولية ضد القاهرة. مصر تستورد ما يتراوح بين32- 35% من احتياجاتها الشهرية من الوقود لسد الفجوة بين الإنتاج المحلى والاستهلاك، وتصل فاتورة الاستيراد إلى نحو800 مليون دولار شهرياً بين المنتجات البترولية التي تشمل البنزين والسولار والمازوت، بالإضافة إلى الغاز المسال، فضلاً عن استيرادها للنفط الخام وتكريره في المعامل المصرية. ولذا فقد لا تصادف رغبة مصر في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز بنهاية 2018 ارتياحاً في نفوس بعض مصدري الغاز الذين سيكون عليهم تحويل كميات من الغاز الطبيعي المسال إلى أنحاء أخرى، وسط القلق من تأثير ذلك على أسعار الغاز العالمية إذا لم يتم إيجاد أسواق بديلة لمصر، التي كانت تعد هي ثامن أكبر مستورد في العالم للغاز الطبيعي المسال. وفي خضم الجهود المبذولة للإقلاع بالاقتصاد المصري، تأتي أيضاً سلسلة من الاكتشافات لتشكل دعماً محتملًا للحكومة في الوقت الذي تنفذ فيه إصلاحات اقتصادية جسورة سياسياً وتكافح لكبح تحدي التضخم. ويحرز حقل ظُهر العملاق تقدماً سريعاً على مسار تدفق باكورة إنتاجه من الغاز، ولكن الإنتاج من حقل «نورس» هو الذي أدهش الجميع هذا العام، حيث ينتج 900 مليون قدم مكعبة من الغاز يومياً، ليصبح بذلك أكبر حقل منتج للغاز في مصر منذ بداية تشغيله في أواخر2015. ولاشك أن على العرب جميعاً دعم الأشقاء المصريين في تحقيق الاستغلال الأمثل لموارد الطاقة لديهم بما يجنبهم إنفاق أكثر من 10 مليارات دولار سنوياً على استيراد الوقود من غاز ومنتجات بترولية. وبذلك تكون مصر قد وضعت قدميها بثبات على طريق الإقلاع الاقتصادي، وتجاوز كافة تحديات ومشكلات الاقتصاد والتنمية، لتعود مصر كما كانت دائماً قوة اقتصادية وسياسية عربية كبيرة قادرة على لعب دور أساسي ومركزي في الحفاظ على مكتسبات الشعوب العربية، وتحقيق معادلة الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط ككل.