عندما مررت «الجمعية الوطنية» في فرنسا قانوناً الشهر الماضي يحظر على أعضاء البرلمان ارتداء أو إظهار الرموز الدينية، قال الكثيرون إن ذلك يتوافق مع تقاليد البلاد الطويلة في العلمانية الصارمة للدولة. والحال أن الحظر –أو التفكير الراديكالي الذي يقف وراءه– أصبح حاجزاً رئيسياً أمام إدماج الجاليات المهاجرة. وضمن تأييده للحظر الجديد، شدد رئيس الوزراء السابق مانويل فالس على أن القانون يُعد استمراراً طبيعياً لتقاليد فرنسية طويلة في فصل الكنيسة عن الدولة في فرنسا. ويمثل موقف فالس الرأي الغالب للنخبتين السياسية والثقافية الفرنسيتين، لكنه رأي مجانب للصواب على النحو الذي سنبينه هنا. فخلال التاريخ السياسي الفرنسي المعاصر، بما في ذلك عقب قانون 1905 الذي أسس لفصل الكنيسة والدولة، كان أعضاء الجمعية الوطنية يُظهرون الرموز الدينية، وخلال معظم هذا التاريخ لم يخطر لأحد أبدا أن ذلك يمكن أن يتناقض مع العلمانية بأي وجه. ومن الوجوه السياسية البارزة خلال مرحلة ما بعد الحرب كان بعض القساوسة الكاثوليك يجلسون في البرلمان بردائهم التقليدي. فهذا «آبيه بيير»، وهو رجل دين فرانسيسكاني كان يتصدر قوائم استطلاعات الرأي لأكثر الشخصيات العمومية شعبية في فرنسا نظراً لعمله الإنساني لعقود حتى وفاته في 2007. لقد بدأ في الحياة العامة كعضو في الجمعية الوطنية ولم يتخل يوماً عن لباسه الديني. وكذلك الحال بالنسبة للأب فيليكس كير، وهو شخصية لم تبتعد يوماً عن مركز الساحة السياسية الفرنسية لأكثر من عقدين من الزمن. وهناك أيضاً السعيد بنعيسى بوعلام، ممثل «الجزائر الفرنسية» وقتئذ، والذي كان يجلس في البرلمان بزيه الأمازيغي التقليدي وعمامته، متشبثاً بلباسه كرجل دين مسلم. ومع ذلك، انتُخب أربع مرات لمنصب نائب رئيس الجمعية الوطنية. وعليه، فإن قانون 1905 أنهى الدعم العام للمؤسسات الدينية، لكنه لم يؤسس أي حكم قانوني أو ثقافي ضد التعبير العام عن القيم الدينية. فلماذا تقال لنا اليوم أشياء مختلفة؟ الجواب بديهي: فخلال العقود القليلة الماضية، هاجر ملايين المسلمين إلى فرنسا. ووقتها فقط، ظهر هذا الفهم الجديد للعلمانية. وطبعاً فإن الأسطورة القائلة بأن علمانية الدولة كانت دائماً تتبنى مثل هذه التأويلات الصارمة، ملائمةٌ وتخدم أهداف من يدفعون بها: إذا كانت ثمة مشاكل مع المسلمين الفرنسيين في فرنسا، فإن سبب ذلك يعود لرفضهم تبني قانون العلمانية المقدس. بيد أن قياس التحيز ضد المسلمين صعب، من جهة لأنه يصعب فصله عن أشكال أخرى من التحيز، ومن جهة أخرى بسبب «تابو» فرنسي قوي ضد الدراسات الاجتماعية للأديان. غير أنه في 2015، وجد الباحثون من «معهد مونتين»، وهو مركز أبحاث وسطي وواحد من المؤسسات الفرنسية القليلة التي تهتم بهذه المسألة، طريقة ذكية لقياس التحيز ضد المسلمين وفصله عن التحيز العرقي أو عن التحيز الذي يدخل في إطار معاداة الأجانب عموماً، وذلك عبر التقدم بطلبات وظيفة باستخدام سير ذاتية مزيفة لأشخاص وهميين. الشخصيات التي ابتكروها من أجل طلبات الوظائف كلها لبنانية، والاسم الأول لمقدم الطلب يشير إلى انتمائه الديني. وبالتالي فإن الاختلافات في معدلات الإجابة على هذه الطلبات يمكن نسبتها إلى تحيز ضد الدين، وليس إلى تحيز عرقي أو تحيز يندرج ضمن إطار معاداة الأجانب. وجاءت النتائج جد دالة ومعبرة: ذلك أن احتمال تلقى مقدمي الطلبات الكاثوليك لمكالمة رداً على طلباتهم كان يعادل ضعف احتمال تلقي مقدمي الطلبات المسلمين عندما كانت السير الذاتية متطابقة في كل الجوانب ما عدا الانتماء الديني. وكان استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «هاريس إنترآكتيف» في 2013، أي قبل هجمات «شارلي إيبدو» في نوفمبر 2015 الإرهابية، وقبل موجة اللاجئين التي أججت التوتر أكثر، حول آراء الفرنسيين في الجاليات الدينية، أسفر عن نتائج مذهلة: 73? من المستجوَبين قالوا إن لديهم رأيا سلبيا عن الإسلام، في حين قال 90? إن ارتداء الحجاب الإسلامي «لا يتوافق مع الحياة في المجتمع الفرنسي»، وقال 63? إن الصلاة خمس مرات في اليوم أمر «لا يتوافق» معهم أيضاً. والواقع أنه إذا كانت مشكلة الفرنسيين مع الإسلام تتعلق بالعلمانية، فإن الراهبات الكاثوليكيات اللاتي يرتدين الحجاب أيضاً ينبغي أن يُعتبرن «غير متوافقات»، والحال أن أغلبية المستجوَبين في استطلاع الرأي نفسه كانت لديهم آراء إيجابية حول الكاثوليكية. والواقع أن الظاهرة برمتها تتم في اللاوعي إلى حد كبير، لكن دوغما «العلمانية» الفرنسية تترجم، عملياً، إلى تعصب مؤسساتي. والنتيجة المتوقعة لذلك هي دائرة مفرغة من التطرف المتبادل! باسكال إيمانويل غوبري كاتب مقيم في باريس وزميل «مركز الأخلاق والسياسة العامة» في واشنطن ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»