قد يندهش البعض من حقيقة أن من فيروس الإنفلونزا يقتل سنوياً 650 ألف شخص، من بين الثلاثة أو الخمسة ملايين الذين يتطور مرضهم، ويتعرضون لمضاعفات خطيرة نتيجة العدوى بهذا الفيروس. وإذا ما أضفنا لتلك الوفيات، الوفيات التي تنتج عن الأوبئة العالمية، كوباء الإنفلونزا الإسبانية الذي وقع عام 1918 وأدى لوفاة نحو 50 مليون شخص حسب بعض التقديرات، ووباء الإنفلونزا الآسيوية الذي وقع عام 1957 وأدى لوفاة 2 مليون شخص، ووباء إنفلونزا "هونج كونج" الذي وقع عام 1968 وأدى لوفاة مليون شخص، فيمكنا حينها أن ندرك فداحة الثمن الذي يدفعه أفراد الجنس البشري عاماً تلو الآخر، وعبر القرون، لفيروس لا يدرك الكثيرون منا مدى خطورته. وعلى عكس العديد من الأمراض المعدية الأخرى، تتحمل الدول الصناعية والغنية، بما في ذلك تلك التي تتمتع بأفضل نظم الرعاية الصحية، جزءاً كبيراً من العبء المرضي لفيروس الإنفلونزا، ومن الوفيات السنوية الناتجة عنه. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تتسبب مضاعفات الإنفلونزا في حجز 200 ألف شخص سنوياً في المستشفيات، ويلقى 40 ألف شخص حتفهم بسبب مرضهم كل عام. وفي "المنطقة الأوربية" حسب توزيع منظمة الصحة العالمية لدول ومناطق العالم، يقدر أن 44 ألف شخص يلقون حتفهم سنوياً بسبب مضاعفات الإنفلونزا. وتقع غالبية هذه الوفيات بين الفئات الأكثر ضعفاً صحياً، وخصوصاً الأطفال الرضع وصغار السن، وكبار السن، والنساء الحوامل، والمصابين بأمراض مزمنة مثل الأزمة الشعبية، وداء السكري، وأمراض القلب، والمصابين بأمراض نقص المناعة كمرضى الإيدز، بالإضافة إلى العاملين في القطاع الصحي نتيجة تعاملهم اليومي مع عدد كبير من المرضى المصابين بالفيروس. ورغم أن الإنفلونزا مرض قديم قدم التاريخ نفسه، حيث كتب عنه الطبيب اليوناني الشهير "أبوقراط" قبل 2,400 عام، إلا أنه لا زال يحمل في طياته الكثير من الألغاز التي لا يزال الطب الحديث عاجزاً عن فكها. إحدى تلك الألغاز يتعلق بموسمية الأوبئة المحلية من المرض، أي وقوع أوبئة منه خلال مواسم معينة، وبالتحديد في الفصول الباردة –الخريف والشتاء- بدلا من جميع أشهر وفصول السنة. وبناء على أن الفصول الباردة في نصف الكرة الشمالي تستمر من نوفمبر إلى أبريل، والفصول الباردة في نصف الكرة الجنوبي تستمر من أبريل إلى نوفمبر، يمكن القول إنه خلال جميع شهور وفصول العام، يوجد وباء محدود من الإنفلونزا في مكان ما من العالم، في الشمال أو في الجنوب على حسب فصول السنة. الصفة الأخرى التي يتصف بها فيروس الإنفلونزا، هو تمتعه بـ«معدل طفرات» مرتفع مقارنة بغالبية الفيروسات الأخرى. بمعنى حدوث تغيير في تركيبته الجينية أو الوراثية بمعدل عال، وهو ما يشكل نقطة هامة في جهود مكافحة المرض باستخدام التطعيم. حيث تعتمد فكرة التطعيمات الطبية بوجه عام على تعريف الجسم بالتركيبة الوراثية لنسخة مضعفة من الفيروس المستهدف، مما يمنح الجسم الفرصة لتكوين أجسام مضادة، واستخدامها في مكافحة الفيروس، ووقف انتشاره، عندما يغزو الفيروس الجسم بكامل قوته. ولكن تغير التركيبة الوراثية للفيروس كل بضعة أعوام، تجعل التطعيمات التي صممت بناء على تركيبة وراثية قديمة، غير فعالة أمام التركيبة الوراثية الجديدة للفيروس. ولمواجهة هذه المعضلة، تقوم منظمة الصحة العالمية باستشراف أو تخمين أي صنف أو أصناف من أصناف الفيروس سيكون منتشراً الموسم القادم، وسيشكل أكبر خطر، وتمرير هذه التوقعات إلى شركات تصنيع التطعيمات، والتي تقوم بدورها بتخليق تطعيمات بناء على تلك التوقعات، وهي العملية التي قد تستغرق أكثر من ستة شهور، كي يتم تصنيع ملايين التطعيمات اللازمة لمكافحة صنف الفيروس المنتشر خلال هذا الموسوم بالتحديد. وإن كان هذا يعني أن تطعيم الإنفلونزا لا يحقق الوقاية التامة ضد جميع أصناف الفيروس، ففي الوقت الذي يمنح فيه الوقاية ضد الأنواع الأكثر انتشاراً، يمكن للمرء أن يصاب بالعدوى بصنف فيروس غير مدرج في تطعيمات هذا الموسم. أضف إلى ذلك أن أحياناً ما تكون توقعات المنظمة الدولية خاطئة، أو أن يظهر نوع جديد من الفيروس، ليصبح هو الفيروس الأكثر انتشاراً لهذا الموسم، وبالتالي لا تجدي التطعيمات المتوفرة حينها معه نفعا.