في مستهل هذا الشهر، شاركت في اجتماع رابطة دعم مراكز الموهوبين الأوروبية ذلك التجمع الذي يضم في عضويته أكثر من 400 منظمة تنتمي لأكثر من 40 دولة، وقد تعلمت الكثير من هذا الاجتماع، الذي ضم نخبة من أهل الاختصاص. وفي أثناء جلسات الحوار تبلورت لديّ فكرة أجدها تستحق الدراسة، ملخصها أننا في العالم العربي إلى الآن لم نتمكن من استثمار العقل العربي إلى حدوده القصوى لعوامل ليس المكان مناسباً لبسطها، لكن نقطة البدء لدينا بها شيء من الخلل، ألخصه في عنوان هذا المقال، فنحن إلى الآن لم نتمكن من التمييز الحقيقي بين العقول الموهوبة والأخرى التي تتوهم الموهبة، وبسبب هذه الضبابية أعلينا من شأن الموهومين، وأغفلنا الموهوبين الحقيقيين في مجتمعاتنا. الموهبة هي قدرة استثنائية لدى فرد من الناس، تجعله قادراً على التفكير خارج الصندوق، وأهم من ذلك تحويل أفكاره إلى منتج يبهر غيره لروعته وتفرده وتميزه، من تنطبق عليه هذه الصفات هو الموهوب الذي يمثل الثروة الحقيقية للمجتمعات، والذي تتنافس الدول المتقدمة في استقطابه واحتضانه والاستفادة من أطروحاته. في الدول العربية أمثال هؤلاء تتحطم أفكارهم على حصون الممانعة، وتحبط نفسياتهم عندما يرون أن الموهومين قد حلوا محلهم، فمن هم الموهومون هؤلاء؟ هم فئة من البشر تتوهم الموهبة بمكملات اصطناعية، فهم بارعون في سرقة ما في عقول غيرهم ونسبتها لهم، هل تفاجأت مرة ببزوغ نجم في ميدان عملك يدّعي الإبداع، وأنت تعرفه خير المعرفة، إنه لا يستطيع أن ينتج مثل هذه الأفكار بذاته؟ اعتقد أن الجميع يهز رأسه إيجاباً. هل تأملت في من يحمل شهادات الدراسات العليا من حولك الماجستير والدكتوراه، وفحصت قدراته الفكرية، لتكتشف أنه لو طلبت منه الحديث الصريح عن موضوع دراسته لرأيت التردد واضحاً عليه فكأنك تطلب منه معجزة لا يستطيع تحقيقها. وسألت نفسك كيف اكتسب هذا تلك الشهادة ! كأني انظر إليك يامن تقرأ هذا المقال وأنت توافقني رأيك وتقول في نفسك ما أكثرهم من حولنا! هؤلاء الذين ضُربت الأمثلة السابقة حولهم تصنعوا الموهبة، وسخّروا أناساً من حولهم يفكرون نيابة عنهم، وينتجون لهم منجزاتهم في مقابل حفنة من الأموال تقل أو تكثر. أهم مما سبق أن هؤلاء الموهومون أوجدوا حولهم من يصفق لهم ويشهرهم عبر قنوات الإعلام التقليدية والحديثة. والنتيجة أنهم خدعوا أنفسهم وسوقوا ذواتهم في مجتمعاتهم، لكن الفراغ الفكري الذي يعيشونه جعلهم يكرهون كل مبدع، ويشنون حرباً خفية عليهم في مؤسساتهم كي لا يبقى من حولهم من بإمكان الناس مقارنته بهم. للأسف الشديد ظاهرة إعلاء شأن الموهومين، ودس العقول الموهوبة في دهاليز الروتين، قتلت الإبداع في المجتمعات العربية. ردة فعل العقول المبدعة تنقسم في الغالب إلى حالتين هما العقول المهاجرة أو المهجورة، الصنف الأول وجد ضالته عند غير بني جلدته فرحبت بهجرته الدول الأجنبية التي تجيد اقتناص الفرص لأنهم يدركون جودة هذه العقول وندرتها، وأمثلة العقول العربية المهاجرة لا يمكن سردها في هذه المساحة، الصنف الثاني من هذه العقول هي المهجورة تلك التي لم تهاجر خارج الوطن لكن الوطن هجرها، وهي بين جدرانه فانطفأت موهبة الإبداع لديهم عبر زمن ملؤه إحباطات متراكمة، مما يمثل خسارة وطنية لابد من أن نتداركها إن شئنا تنمية حقيقية لأمتنا. *أكاديمي إماراتي