ما الذي بين موسكو وواشنطن مؤخراً؟ وهل سخونة الموقف تتجاوز في واقع الحال مخاطر الحرب الباردة التي عرفها الطرفان طوال أربعة عقود تقريباً؟ المتابع لمسار التطورات الأخيرة بين الروس والأميركيين يدرك تمام الإدراك أن هناك حرباً شديدة الوعورة والخطورة تجري رحاها بين الجانبين في الفضاء السيبراني وبعيداً عن الواقع المنظور، وإن كانت تؤثر عليه تأثيراً خطيراً جداً في الحال والاستقبال. أحدث فصول المواجهة تبدت الأيام القليلة الماضية عندما وجه المحقق «روبرت مولر» المكلف بالتحقيق في مزاعم تدخل الروس في الانتخابات الأميركية الاتهامات لـ 13 مواطناً روسياً وبعض الكيانات الاعتبارية بالتدخل في انتخابات الرئاسة 2016 لصالح دونالد ترامب، والعمل على إلحاق الهزيمة بهيلاري كلنتون. الاتهامات التي وجهها «موللر» طالت ثلاث شركات روسية أيضاً، من بينها شركة إنترنت مقرها مدينة «سانت بطرسبرج» والتي وصفها تقرير المباحث الاتحادية الأميركية FBI بأن هدفها الاستراتيجي كان زرع الفتنة في النظام السياسي الأميركي، والتأثير على نشاطات الأميركيين والرأي العام، ما أدى إلى النتيجة المفاجئة المتمثلة في فوز رجل العقارات ترامب بالبيت الأبيض. يعن لنا التساؤل:«كيف يريد لنا «الجمهوريون» تصديق أن 13 عميلاً روسياً وثلاث شركات استطاعوا التأثير في الرأي العام الأميركي، فهل امتلك الـروس حجر الفلاسفة، أم أنهم سمموا مياه الولايات المتحدة بسموم الزيف عوضاً عن الحقيقة لكي تأتي النتيجة على ذاك النحو؟ رواية «موللر» الأخيرة تفتح الباب للظنون حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تعرضت لأكبر عملية خداع وتجسس من الروس في التاريخ المعاصر، وأن حقائق العملية غير واضحة ولم تتكشف أبعادها، وربما لن تنكشف بسبب الخوف من تأثير ذلك على سمعة الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، وكذا نصيبها من الموازنات المالية. البديل الآخر هو أن القصة برمتها غير حقيقية، كما يدافع ترامب عن نفسه، وإن أشار إلى أن تدخلاً روسياً ما جرت به المقادير، غير أن حملته كانت بريئة منه براءة تامة. أحد الأسئلة الأخرى المثيرة للتأمل هل نحن أمام شكل من أشكال «المقاصة الاستخباراتية» وثيقة ولصيقة الصلة بالحياة السياسية في موسكو وواشنطن؟ الجواب في واقع الحال يأخذنا في مسارين الماضي القريب والمستقبل الأقرب... ماذا عن ذلك؟ في العام 2012 اتهمت السيدة هيلاري كلينتون حملة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدم النزاهة والتحايل على الشعب الروسي لضمان إعادة انتخابه رئيساً لروسيا من جديد، ويبدو أن بوتين لم ينس هذا الأمر، فكان هناك «ثأر» لاحق من هيلاري، وإنْ صب بطريق غير مباشر في دعم وفوز ترامب. أما المستقبل فلا يبعد عنا بضعة أسابيع، حيث بوتين يخوض انتخابات الرئاسة لفترة رابعة، والحديث الآن في واشنطن جار على قدم وسائق حول ما يعرف بـ«لائحة الكرملين»، والتي تتضمن أفراداً وكيانات تعدها واشنطن العمود الفقري للنظام الروسي ومرشحة لأن توقع عليها عقوبات اقتصادية من أجل غرض واحد وهو إسقاط بوتين. علامة الاستفهام الأخطر:«هل يبادر الأميركيون إلى إسقاط بوتين خوفاً من التدخل الروسي المتوقع، وبلا شك، بقيادة بوتين في انتخابات التجديد النصفى للكونجرس في نوفمبر المقابل؟ أواخر يناير الماضي كان «مايك بومبيو» مدير الاستخبارات المركزية الأميركية CIA وفي تصريح خاص لإذاعة BBC يؤكد أن روسيا سوف تستهدف انتخابات التجديد النصفي القادمة وذلك في محاولة للتأثير على النتائج، ومضيفاً أنه لا يوجد تراجع يذكر في محاولات روسيا للتأثير في مجرى الانتخابات في أوروبا والولايات المتحدة. «بومبيو» في تصريح أكثر إثارة له لم يمض عليه أسبوعان وعد الأميركيين بعدم القلق ومطمئناً إياهم بأن لديهم أقوى جهاز مخابرات في العالم، وأنه قادر على الولوج إلى أي مكان في العالم والحصول على الأسرار التي يريدها لصالح الشعب الأميركي وهنا: «هل يُفهم أن الأميركيين في طريقهم لحرب سيبرانية تتجاوز الحرب الباردة؟ تبدو كافة الخيوط والخطوط متشابكة ومتداخلة بين موسكو وواشنطن، ولا يبدو أن اللقاء الذي جمع «بومبيو» بقادة الاستخبارات الروسية وفي مقدمتهم «سيرجي ناريشكين» قد أسفر عن«آفاق توافق»، بل «علامات تصادم» على الطريق. «الديمقراطيون» ولأجل إشعال الساحة الأميركية من جديد علقوا بأن:«إدارة ترامب يجب أن تأتي على الفور لتجيب على أسئلة.. هل التقى مسؤولون أميركيون أو مسؤولون في مجلس الأمن القومي مع ناريشكين؟ وإنْ كان ذلك حدث، فما هي النتائج التي رَشحت عن هذا اللقاء. الحقيقة المؤكدة أن بئر أسرار الحرب السيبرانية وما بعد الحرب الباردة عميق ومظلم، وحقائقه قد لا يعرفها أحد، أما أخطاره المالية والعسكرية، عطفاً على تهديد السلامة الاجتماعية للأوطان، فتحدث بها الركبان. قبل بضعة أيام قالت «واشنطن بوست» إن الـ CIA توصلت إلى أن روسيا هي المسؤولة عن الهجوم الإلكتروني «نوتبيتيا» الذي سرب «فيروس رانسوموير» للعالم وتسبب في خسائر فادحة في يونيو 2016، ما يعني أن هناك أجزاء عريضة وواسعة من المواجهات السيبرانية قائمة وقادمة، وفي انتظار نتيجة انتخابات روسيا الرئاسية شبه المحسومة، تبقى الكرة في ملعب الأميركيين، وقد وعدهم «بومبيو» بأنه سيبذل ما في استطاعته لسرقة الأسرار بالنيابة عن الشعب الأميركي...هل هي كرة اللهب تتدحرج في الفضاء الافتراضي بداية قبل أن تمسك بتلابيت البشر حول العالم من خلال شرارة المواجهة الروسية – الأميركية؟ *كاتب مصري