قبل أيام، أشار أحد خطباء الإسلام السَّياسي إلى أن تفسير ظاهرة المطر علمياً، أدت إلى تحريم علماء الدِّين الكبار، على حدِّ عبارته، التَّعليم في المدارس الرَّسمية، لتناقضه مع التعليم الدِّيني في تفسيره حدوث ظواهر الطَّبيعة، ويبدو أن الخطيب تأثر بهذا التَّحريم، فترك الهندسة واعتمر العِمامة. بينما لو أُخذ الأمر على أنَّ الدِّينَ دينٌ، والعِلمَ عِلمٌ، لما توصل هؤلاء (العلماء) إلى هذه النَّتيجة المفزعة. يتحدث هذا الخطيب في كلّ يوم جمعة عبر قناة حزبه، وتحت عنوان «التَّنوير»! فلكم تخيل فاجعة تنويرهم! غير أن علماء العصور السَّابقة لم يكفروا بديع الزَّمان الأسطرلابي(ت534ه) عندما فسر حدوث المطر بتصاعد الأبخرة: «كالبحرِ يمطره السَّحاب وما له/فضلٌ عليه لأنه مِن مائهِ»(الحَموي، معجم الأدباء). بعد أن ثبت العِلم وجوده، تبنت الجماعات الدِّينية، بما يعود على الدِّين بالسِّلب، وهو ما عُرف بـ«الإعجاز العِلمي في القرآن». تفوق في هذا المجال الشَّيخ طنطاوي جوهري(ت1940)، وكتابه «تفسير القرآن الكريم المشتمل على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات»(25) مجلداً(العام1931)، تأثر الشَّيخ بدراسات أوروبية عن العِلم والكتاب المقدس، حاول أصحابها مواجهة الثّورة العلمية الكبرى. جاء التَّفسير مملوءاً بالكيمياء والفيزياء، حتى ينسى مَن يطلع عليه أنه أمام تفسير الكتاب الكريم، قال جوهري: «فأخذتُ أؤلف كُتباً لذلك شتى، ومزجتُ فيها آيات الوحي مطابقة لعجائب الصَّنع، فتوجهتُ إلى ذي العزِّة والجلال، أن يوفقني أن أُفسر القرآن، وأجعل هذه العلوم مِن خلاله»(تفسير القرآن). أي إقحام الآيات في النَّظريات العلمية، منها بالمعنى الظاهر. لهذا يعتبر كلَّ الذين نشطوا لإثبات الحقائق العلمية قرآنياً عالةً على جوهري. كانت حجة «الإخوان» في تبني دروس «تفسير القرآن بالعلوم الحديثة» للشَّيخ جوهري، استقلال التعليم عن المؤسسات الدِّينية، فذهبوا إلى إقحام الدِّين في الشَّأن العلمي البحت، وكان الشَّيخ المذكور مسكوناً بالاختراعات والاكتشافات، وعضواً في «جماعة الإخوان»، فأوكلت له المهمة، رشحه حسن البنا(اغتيل1949) مرشداً، لكنه رفض، ليكتفي بمسؤولية فرع الجماعة بالقاهرة، مع ترأس تحرير صحيفة «الإخوان»(موسوعة الإخوان). بعده ظهر أكثر مِن «إخواني» يُشيع الإعجاز العلمي، ومنهم أطباء ومهندسون، أسقطوا البحث، الذي يتغير مع التقدم العلمي، على الآيات القُرآنية. فما أن يظهر اكتشاف أو اختراع إلا قابله فقهاء الإعجاز بآية، فأوجدوا في القرآن الكهرباء، وذرات النُّور داخل الأجسام، ومكونات قطرة الماء من أوكسجين وهايدروجين(تفسير جوهري)، وذلك في الآيات: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ»(النُّور: 35)، فأخذ خطباء المنابر يصدحون بهذا الإنجاز. ناهيك عن دوران الأرض وكرويتها، وحركة النُّجوم والكواكب. بينما التَّفسير المعقول أتى به القدماء، على أن «النُّور» في الآية لا يعني التفسير الحرفي بالشَّعاع أو الكهرباء، إنما المقصود الهداية(الطَّبري، تفسير القرآن). كذلك توصل جوهري إلى أن «الطَّائرات والبالونات مرسومة في سورة النَّحل»، وعلى هذا التفسير ألف تساؤل وتساؤل! أما تلاميذ الشَّيخ فكلٌّ في اختصاصه العلمي جعلوا مِن الكتاب الكريم طباً وهندسةً وفلكاً وجيولوجيا. انتقدهم صاحب «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» جواد علي(ت1987) قائلاً: «لفتت النَّهضة الأوروبية الحديثة أنظار بعض المفكرين، ففسروا الإسلام تفسيراً عصرياً، وفسروا القرآن تفسيراً علمياً فيزياوياً وكيمياوياً ونحو ذلك، فالذي فعله المرحوم طهطاوي جوهري، وغايته من ذلك إظهار أن الإسلام دين يوائم كلَّ زمان ويناسب كلَّ مكان، وإنه قد بشر بهذه العلوم في وقت ظهوره، وقد فاتهم أن النَّظريات العلمية هي في تبدل وتغير... وأن ما جاء به الجوهري من تفسير قد حكم العلم ببطلانه... فاتهم أن القرآن ليس بكتاب كيمياء، ولا بكتاب في الفيزياء، ولا بكتاب في العلم، أو الفن، أو التقنيات»(حوار في آفاق عربية1984). فالكون شاسع في كلّ يوم يتجدد، وقبل ألف عام: «ولوْ طَار جبريلُ بقيَّةَ عُمرهِ/عن الدَّهر ِ ما اسطاعَ الخروجَ مِن الدَّهرِ»(المعري، لزوم ما لا يلزم)، ولا يُفسر البيت بقِدم العالَم، بل تعبير عن شساعته غير المحدودة، لتلازم الزَّمان والمكان، ومعلوم أن القول بالقِدم يُعد كفراً، وفقاً للغزالي(ت505ه) في «تهافت الفلاسفة»، لكنَّ صاحب البيت المذكور يُجيب: «وليس اعتقادي خُلود النُّجوم/ولا مذهبي قِدم العالمِ». يتسع الكون والعِلم يتابع اكتشافه، يخطأ ويُصيب، ولا مبرر أن يُعّرَّض القرآن للتَّجربة، لغرض بدأ حزبياً. عندما تكون الفيزياء والكيمياء والصِّناعات دليلاً على وجود الله، سيحُجم الإيمان نفسه، مثلما حُجم الدِّين بجعله أحزاباً ومنظماتٍ، لا تتوقف عن الانشقاقات. فإذا نظرنا في دعاة الإعجاز سنجدهم إسلاميين كافة، والبداية كانت بدروس الإخوان: «تفسير القرآن بالعلوم الحديثة»!