كان الوصف الذي أعطاه أحد الخبراء العسكريين لافتاً، إذ قال إن الصواريخ التي أُطلقت ضد الطائرات الإسرائيلية يصعب إحصاء عددها وأنواعها أو تقدير الجهة التي أصابت الـ «اف 16» وأسقطتها. وبما أن الهجمات الإسرائيلية توزّعت على أكثر من منطقة، بموافقة روسية كالمعتاد، واستهدف معظمها خصوصاً مواقع للإيرانيين ردّاً على طائرة من دون طيار أطلقوها نحو شمال إسرائيل، فقد قيل إن دفاعات النظام السوري هي التي أسقطت الطائرة. أما الإسرائيليون فاعتبروا أن المواجهة كانت مع إيران، وكانت تلك المرّة الأولى التي يصرّحون فيها مباشرة عن عملية في سوريا منذ بدأوا طلعاتهم الجويّة بضوء أخضر روسي ولم يلاقوا مواجهة سوى مرة واحدة (في مارس 2017) وقيل يومها إن الروس سمحوا بإطلاق المضادات كـ «رسالة» إلى الإسرائيليين والأميركيين. صباح السبت 10 فبراير كانت «رسالة» أخرى أقوى، إذ سبقها قبل أسبوع إسقاط «سوخوي 25» بصاروخ محمول فوق إدلب وتبعته بعد أيام ضربة أميركية قاسية لفرقة مرتزقة روسية في دير الزور. كان في ردّ إيران حرص على نفي أي وجود عسكري لها في سوريا، وأن دورها يقتصر على «خبراء» مساندين لقوات النظام، كما نفت «غرفة عمليات حلفاء سوريا» إرسال أي طائرة مسيّرة فوق الأجواء الإسرائيلية. وبموازاة ذلك راحت مصادر دمشق وطهران و«حزب الله» تستخلص من الحدث بداية «فصل استراتيجي جديد»، مفاده أن الصمت وعدم الردّ على ما يفوق مئة هجوم إسرائيلي جوي خلال 2016 و2017 كان مرحلة وانتهت، وأن إسقاط الـ«اف 16»كان مؤشّراً لمرحلة أخرى. وإذا صحّ ذلك فهو يعني بالضرورة أن ثمة تغييراً، وبالتالي قراراً روسياً أبلغ إلى الحليفين السوري والإيراني. لم تعرض موسكو يوماً مبررات منحها إسرائيل «حق» استهداف مواقع في سوريا، لكن فُهم أنها أُلزمت عدم التعرض لقوات النظام، وقصر ضرباتها على شحنات أسلحة موجّهة إلى«حزب الله» الذي «لا يحبّه الروس»، وفقاً لتعبير مبكر لأحد قادة «الحرس الثوري». في المقابل لم يقل الإيرانيون والنظام يوماً: لماذا امتنعوا على الدوام عن الرد على الهجمات وعدم الإعلان عنها إلا عندما تتم نهاراً، لكن فُهم أيضاً أنهم اضطرّوا للرضوخ للمشيئة الروسية. طوال ساعات بعد تلك المواجهة سلّط معظم العواصم الانتباه إلى ما يمكن أن يكون بداية حرب إقليمية، خصوصاً أن الأجواء الدبلوماسية معبّأة منذ شهور بمقدّمات وسيناريوهات لمثل هذه الحرب، ثم أن المعلومات أفادت بأن زيارات بنيامين نتنياهو لفلاديمير بوتين، وآخرها في 29 يناير عشية مؤتمر الحوار السوري في سوتشي كانت تهدف إلى انتزاع موافقة روسية على عملية عسكرية واسعة ضد الإيرانيين. ومع أن الإسرائيليين واصلوا الغارات بعد إسقاط طائرتهم إلا أنهم لم يتعرضوا لردود إلا مرة واحدة، وفي النهاية استعادت الجبهة هدوءها في ما يشبه تطبيقاً فورياً لعنوان التقرير الجديد لمؤتمر ميونيخ للأمن«إلى الهاوية... ثم عودة»! وهو ما ينطبق أيضاً على الأزمة الكورية التي وصلت في بعض اللحظات إلى التباري بملامسة أزرار التفجير لمواجهة نووية. وفي الحالين لا يمكن القول إن الخطر زال تماماً، فلا الوفد الرياضي الكوري المشترك إلى الأولمبياد الشتوي كافٍ لمعالجة تهديدات بيونج يانج، ولا الإدارة الروسية للصراع على سوريا كفيلة بحل الاشكالات التي استجدّت وعقّدت ذلك الصراع. في أي حال ربما تكون روسيا اضطرّت أخيراً لإجراء بعض التغيير في الامتيازات التي توزّعها على الأطراف الإقليمية المتصارعة تحت مظلّتها، إذ أن إجازتها العملية التركية في«عفرين» أثارت الإيرانيين الذين كانوا غاضبين أصلاً على التسهيلات المعطاة للإسرائيليين، وأرادوا حماية منظومات دفاعية واستخبارية فرغوا لتوّهم من إنشائها. ربما تعتقد روسيا أن هذه الإدارة للصراعات تمنحها مكاسب ولا تكلّفها شيئاً، لكنها باتت طريقة لتعقيد الأزمة وإطالتها في سوريا. روسيا تقدّم نفسها كحاملة مفاتيح إنهاء الحرب والحل السياسي ولا بد أنها تعرف الآن أن الوجود الإيراني بما فيه«حزب الله» ليس عنصراً مساعداً في هاتين المهمّتين، لأنه مرفوض دولياً. عندما دافعت طهران عن«عدم وجودها» في سوريا أرادت التركيز على أن التصعيد إسرائيلي ولا علاقة لها به، إلا أن علي أكبر ولايتي مستشار المرشد ما لبث أن صرّح بأن الوجود الإيراني في سوريا«دائم»، بعدما قال قبل ذلك إنه وجود حتمي في الشرق الأوسط. هذه هي الوصفة لعدم حل أي من الأزمات في المنطقة.