أتيحت لي فرصة إلقاء محاضرة الأسبوع الماضي بمدينة الرياض في موضوع له علاقة بالدراسات المستقبلية، بدعوة من مركز البحوث والتواصل المعرفي الذي يرأسه الباحث الدكتور يحيى بن محمود الجنيد الذي قضى سنوات طويلة من حياته في محراب البحث والتأليف. ولفت انتباهي في هذا اللقاء حرفية الحضور والمنتسبين إلى المركز وتجاوبهم مع موضوع قلّما جعلناه علماً وفناً في جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية، والذي ذكرني أيضاً بالاجتماعات الاستراتيجية لمراكز مقتدرة كتشاتام هاوس ?المعروف ?بتبادل ?الخبرات ?والأفكار. وكما يعلم كل متتبع حصيف، فإن أهم مراكز الأبحاث الدولية تمارس هذا النوع من الرياضة الفكرية، وتبلور أفكاراً أصيلة، وتقدم خيارات سياسية متعددة، ومع مرور الوقت تكون خزاناً من الخبراء المتمكنين يمكن أن يوضعوا رهن إشارة صاحب القرار. ففي الولايات المتحدة، تسهم مراكز الأبحاث والدراسات في تداول النخب، حيث تجد الإدارات المتعاقبة رهن إشارتها أناساً خبراء تعيّنهم في مراكز القرار.. وهاته المراكز في بعض الأحيان تكون «جامعات من دون طلبة»، لأنها تستعين بباحثين من حملة شهادة الدكتوراه وبمتخصصين في مجالات دقيقة، يطالَبون بإنجاز دراسات وفق الشروط والمعايير الأكاديمية والعلمية، وهي مراكز تعمل على بلورة دراسات جادة تطلبها منها مؤسسات عمومية. أشرت في تدخلي إلى أن الآراء تتوزع حول مفهوم هذا النوع من الدراسات المستقبلية بين من يراها «علماً» ومن يراها «فنّاً»، وأخيرا هناك من يراها وسطاً بين العلم والفن، وأنا من متبني هذا التوجه الأخير، فالدراسات تسلك‏? ?دوماً? ?سبيلاً? ?مفتوحاً? ?يعتمد? ?التفكير? ?فيه ?على? ??خيارات? ?وبدائل،? ?كما? ?أنها? ?شاملة? ?ومنهجها? ?متعدد? ?التخصّصات، وتقنياته? ?من? ?كل? ?المعارف? ?والمناهج? ?العلمية،? ?ومفتوح? ?على? ?الإبداعات? ?البشرية? ?متنوعة المجالات. والدراسات الاستشرافية المستقبلية بوصفها آلية للتخطيط تهدف أولاً إلى صياغة براديغمات وأطر فكرية لتحديد طبيعة المشاكل والتحديات التي تواجه البشرية أو التطور الإنساني في المستقبل، وثانياً إلى توجيه قرارات القادة السياسيين ووضع حلول وبدائل مستقبلية، ويتم ذلك خلال استعمال الكثير من التقنيات المستقبلية لترشيد عملية التخطيط، انطلاقاً من تحديد المشكلة إلى غاية مرحلة التنفيذ والتقييم، كتقنية السيناريوهات وتقنية دلفي، وتقنية التنبؤ، وتقنية المحاكاة، وتقنية نظرية المباراة، وبحوث العمليات ونظم المعلومات. المراكز البحثية الكبرى في الدول المتقدمة التي تقوم بتلك الأعمال المستقبلية تستفيد من مساحة الحرية التي تنشط فيها، وتتبع براديغمات عقلانية وتجعل من مصلحة البلد غايتها، ولها رؤية مستقبلية في بنيتها تطغى عليها النظرة الإيجابية إلى المستقبل، كما تستفيد من قوة المناهج والأسس النظرية في شراكة استراتيجية مع المجتمع ومع صانع القرار، وتستفيد من قوة البحث العلمي ومكانة جامعاتها ومؤسساتها الفكرية والتربوية، وتقوم بتجذير التقاليد الديمقراطية للبحث العلمي الذي يُسهم في تنمية المجتمع أياً كان التخصص.. وتعمل تلك المراكز في إطار من تقاليد العمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي وقبول الخطأ والتقييد، وقبول الأسرة الفكرية الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي العلمي المشترك، كما تعتمد في إطار دراساتها المستقبلية على وفرة المعلومات وسعة صدر صاحب القرار، وعلى تقنيات تمكّن من توسيع مساحة المشاركة في البحث. ثم إنك لو خضت في كل السياسات العمومية الناجحة في الدول الصناعية الكبرى لوجدتها وليدة دراسات استشرافية أثرت على صانع القرار ومنحته الأرضية الفكرية اللازمة والسيناريوهات الممكنة؛ وهو بتواضعه وذكائه كيفها في سياسات وقرارات وتوجهات تتعدى مصالحه السياسية الضيقة، لأنه يشتغل لمصلحة البلد وللأجيال الحاضرة والمقبلة، ورجل الدولة هذا قد يأخذ قرارات تخالف مجموعته السياسية، ويتبنى توجهات لا يمكن أن ترى بالعين المجردة. فتأثيراته يمكن أن لا تظهر في المراحل الأولية أو الأنماط الجديدة للعمل، ولكن تظهر في النجاح النهائي للعمل بأكمله.. وما تتيحه له الدراسات المستقبلية هو عملية التنبؤ العلمي واستشرافه للمستقبل ووضع الحلول الممكنة التي تسمح بعملية التنفيذ الدقيق للافتراضات غير المرئية وغير المعلنة، والانسجام السلس للنشاط في مجمله، وهذا طبعاً لا يصبح جلياً إلا عند تحقيق النجاح النهائي.