في وثائق استراتيجيتها الجديدة، تحدد إدارة ترامب التحدي الأمني الرئيسي لأميركا والذي يتمثل في عودة ظهور منافسة القوى العظمى. وتؤكد استراتيجية الأمن القومي أن الصين وروسيا تسعيان إلى «تغيير النظام الدولي لصالحهما»، بينما تؤكد استراتيجية الدفاع الوطني الأخيرة على أنهما «تريدان تشكيل عالم يتسق مع نموذجهما الاستبدادي». وتصف الإدارة على نحو صحيح هذه المنافسة باعتبارها مع واحدة من الأنظمة السياسية وأنظمة الدول، وأن النتيجة هي أن مصير مستقبل الأمن والحريات في أميركا قد يكون مجهولا. وتسلط استراتيجية الأمن الوطني الضوء على فقدان أميركا لقدرتها التنافسية في كل مجال عسكري، فيما تواصل القوى العظمى المنافسة القيام باستثمارات كبيرة في استعراض القوة. غير أنه يجب أن تذهب استجابة بلادنا لتحدي القوى العظمى لأبعد من بناء جيش أقوى، وأن تضاعف دعم أميركا للديمقراطية في العالم. والأسباب واضحة. فالأصدقاء والحلفاء يضيفون قوة إلى قوة أميركا. ويجب أن يكون الشركاء الحاليون والمحتملون قادرين على اتخاذ خيارات استراتيجية خاصة بهم، وخالية من القسر الصيني أو الروسي. ويجب أن يكونوا قادرين على مقاومة المحاولات الخارجية لكسر نظمهم السياسية، وتعزيز الفساد وزرع المعلومات الخاطئة، أو تقويض الانتخابات وسيادة القانون. واليوم، فإن الأخطار التي تهدد سيادة وأمن العديد من البلدان لا تأتي من الولايات المتحدة، بل مما يصفه الصندوق الوطني للديمقراطية بـ«القوة الحادة»، أي عمليات النفوذ الأجنبي الرامية إلى تخريب المؤسسات الديمقراطية من أجل تحقيق ميزة استراتيجية. إن منافسة العالم الجديد وقواه العظمى بفاعلية، تتطلب من الولايات المتحدة العمل مع مجموعة من الشركاء الأجانب الأقوياء والموثوقين. والدعم الأميركي النشط لحكم أفضل يجعل الدول أكثر مرونة في مواجهة الضغوط من القوى الرجعية. وترى روسيا الديمقراطيات الغربية كتهديد لأمنها، فكيف تتصرف بمقتضى ذلك حيال الولايات المتحدة؟ الإجابة: عن طريق إضعاف الممارسة الديمقراطية فيها. لذلك قامت موسكو بالجمع بين التدخل في الانتخابات، والدعاية والأخبار الوهمية والتصيد عبر الإنترنت، وغير ذلك من أشكال التخريب التي تستقطب السياسة من خلال تحريض المواطنين ضد بعضهم البعض. إن روسيا تفتقر إلى القدرة على تحدي «الناتو» مباشرة، لكنها نجحت في زرع الانقسامات بين الحلفاء. لقد كانت المحرك الأول للمنافسة ضد الولايات المتحدة. وبالمثل، تقوم الصين الآن بالتدخل في الشؤون السياسية الداخلية لدول متباينة، مثل أستراليا واليونان وجنوب أفريقيا وسريلانكا وزيمبابوي. كما نقل مشروع الحزام والطريق الاستثماري صفقات فاسدة وغامضة إلى مجموعة من الدول، وأدى نفوذها في بلدان من بينها نيوزيلندا وسنغافورة إلى إثارة الغضب الداخلي. وقد أثار دعم بكين السياسي للقادة المستبدين في أفريقيا اتهامات محلية بـ«الاستعمار الجديد»، وتحركت الصين لتقييد حرية التعبير في الدول التي لديها معها علاقات اقتصادية وثيقة. فكيف تُحكم الدول؟ وما مدى أهمية هذا الحكم بالنسبة لقوتها وتحالفاتها الجيوسياسية، خاصة في عصر يزرع فيه منافسو أميركا الخلاف بهدف إضعاف الدول الصديقة للولايات المتحدة وإبعادها عن إبرام شراكات معها؟ إن الديمقراطيات القوية هي أقل احتمالا لأن تحظى باختيار الصين أو روسيا وغيرهما من الدول ذات الحزب الواحد، والتي غالبا ما يميل قادتها إلى تحقيق مكاسب شخصية تخدم صورة الزعيم. وبينما تنافس الولايات المتحدة من أجل حلفائها وأصدقائها، فإن قوة هؤلاء الشركاء ستصب إلى حد كبير لصالح مرونة المؤسسات السياسية في البلدان الديمقراطية ككل. وهذه بالضبط هي القدرة التي تقوضها الصين وروسيا. ومع نشاط بكين وموسكو، ووسط ما وصفته مؤسسة «فريدم هاوس» بتراجع لمدة 12 عاما في الحرية حول العالم، فقد حان الوقت لأن تجدد واشنطن دعمها للديمقراطية في الخارج. وهذا يتطلب تعزيز نمو المؤسسات الليبرالية والدفاع عنها ضد أي اعتداء غاشم. وكثيرا من يُنظر إلى الدعم الأميركي للديمقراطية وسيادة القانون باعتباره الجانب الأكثر نعومة من السياسة الخارجية للولايات المتحدة: عناصر من الأفضل الحصول عليها عبر أجندة القيم التي يجب أن تكون تابعة للسعي الجاد لتحقيق الأمن. لكن إذا تحقق ذلك بشكل صحيح، فإن الولايات المتحدة بالعمل من خلال هذا النهج، تكتسب ميزة تنافسية يفتقر إليها خصومها. إن وجود عالم به القليل من الديمقراطيات، وفي حالة من الفوضى، يضيف ثقلا أقل لقوة الولايات المتحدة، وهو أمر لا يسيء فقط للقيم الأميركية، بل أيضا يشكل خطراً على أمن الشعب الأميركي. وكما تثير استراتيجية الإدارة الأخيرة مناقشات حول الكيفية التي ينبغي أن تتنافس بها الولايات المتحدة على أفضل وجه في عالم من القوى العظمى، سيكون هناك تركيز طبيعي على الاستثمارات الدفاعية والتكنولوجيا العسكرية والنمو الاقتصادي والترتيبات الأمنية متعددة الأطراف. وهذا أمر جيد، لكنه غير مكتمل. وأي برنامج لتعزيز الديمقراطيات في العالم وتوسيع نطاقها، ينبغي أن يكون جزءا من أي نهج ناجح للتحرك في التضاريس الجيوسياسية الحالية. ----------------------- *محلل سياسي أميركي -------------------- عن دورية «فورين بوليسي» -------------------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»