بعد نحو تسع سنوات أمضاها جاكوب زوما على رأس السلطة في بلاده جنوب أفريقيا، تراجع اقتصادها بنسبة ملحوظة، وزادت المعاناة الاجتماعية للعديد من فئات المجتمع.. كان لا بد من جهد كبير لدفعه نحو الاستقالة من المنصب. وهو ما قرره «حزب المؤتمر الوطني الأفريقي» الحاكم، الثلاثاء الماضي، وقد نجح في حمل زوما على التنحي ليحل محله نائبه سيريل رامافوزا رئيساً للبلاد. وفي أول حديث إلى الشعب عقب أدائه اليمين الدستورية أمام البرلمان، يوم الجمعة الماضي، ألقى رامافوزا خطاباً طموحاً تعهد فيه بـ«فجر جديد» لجنوب أفريقيا، وبـ«عكس مسار الفساد» فيها، وبإحياء اقتصادها الراكد، وبمعالجة مشكلة البطالة والحد من الديّن الحكومي. و«سيريل رامافوزا» سياسي ومحامي وزعيم نقابي وناشط سابق ضد نظام الفصل العنصري ورجل أعمال والرئيس الحالي لجنوب أفريقيا. وهو مولود عام 1952 في أحد الأحياء الفقيرة بجوهانسبرغ، لأبوين قادمين من «فندا»، إحدى البانتوستانات في شمال البلاد، وكان الثاني بين ثلاثة أطفال لوالدته العاملة المنزلية ووالده الذي كان شرطياً. وحين كان لا يزال طفلاً، تعرض الحي الذي تقطنه أسرته لهجمة من مجموعات البيض، فاضطرت للانتقال منه إلى «سويتو»، أحد الأحياء الأخرى لجوهانسبرغ. وهناك التحق بمدرسة «تشيليدزي» الابتدائية ثم بمدرسة «سيكانو نتوان» الثانوية، قبل الانضمام لجامعة الشمال (تورفلوب) لدراسة القانون فيها عام 1972. وهناك انخرط في النشاط الطلابي وانضم إلى منظمة طلاب جنوب أفريقيا (ساسو)، فتم اعتقاله في عام 1974 لمشاركته في تجمعات مؤيدة لـ«جبهة تحرير موزمبيق» (فريليمو)، حيث بقي في السجن 11 شهراً، ثم تم اعتقاله في 1976 على خلفية اضطرابات شهدتها سويتو، فاحتجز لمدة ستة أشهر. وبعد الإفراج عنه حصل على وظيفة كاتب عدلي في مكتب محاماة بجوهانسبرج، بينما واصل دراساته القانونية في جامعة جنوب أفريقيا (أونيسا)، لينال شهادة المحاماة في عام 1981. وفي ذلك العام انضم رامافوزا إلى «مجلس النقابات في جنوب أفريقيا» (كوزا) كمستشار قانوني، ثم طلب منه «كوزا» في العام التالي إنشاء اتحاد نقابي منجمي، فقام بإطلاق الاتحاد النقابي الجديد وأصبح أول سكرتير له، لكن سرعان ما تم اعتقاله بتهمة التخطيط لاجتماع حظر القضاء عقده. وبعد شهرين تم إطلاق سراحه فعاد لنشاطه النقابي، وشارك في التحضير لمؤتمر «اتحاد نقابات عمال جنوب أفريقيا» (كوزواتو) في ديربان عام 1985 وألقى الكلمة الرئيسية في المؤتمر، وتم انتخابه كأول أمين عام للاتحاد الذي تعاظمت قوته تحت رئاسته. وإلى جانب نضاله النقابي ضد نظام الفصل العنصري، شارك رامافوز في النضال السياسي من أجل الديمقراطية؛ فترأس وفد النقابات الجنوب أفريقية في عام 1986 للاجتماع بـ«المؤتمر الوطني الأفريقي» في لوساكا بزامبيا. ورافق في مطلع يناير 1990 السجناء السياسيين من «المؤتمر الوطني الأفريقي» المسرحين من سجون جنوب أفريقيا إلى لوزاكا بزمبيا. وترأس لجنة الاستقبال الوطنية لتنسيق الترتيبات الخاصة بالإفراج عن نيلسون مانديلا وتنظيم الاحتفالات الترحيبية اللاحقة لاستقباله. ولذلك تم انتخابه أميناً عاماً لـ«المؤتمر الوطني الأفريقي» خلال مؤتمره المنعقد في ديربان في يوليو 1991. ومن ذلك الموقع شارك في مفاوضات الحزب لتحقيق نهاية سلمية لنظام الفصل العنصري ولدفع البلاد نحو أول انتخابات ديمقراطية في أبريل 1994، وبرز كمفاوض متمرس وخبير استراتيجي محنك، ما جعل مانديلا يتبناه ويقرِّبه. ورغم سجله كمناضل ضد نظام الفصل العنصري، فقد تعرض لانتقادات فيما يخص تأثير مصالحه التجارية، وإن لم تثبت عليه أي ممارسات غير قانونية. ومن ذلك ما أُثير حول علاقة شركاته بشركة اتصالات إيرانية، لكن لجنة تحقيق برأت شركته من مخالفة القانون في تعاملها مع إيران. كما أثيرت اتهامات أخرى حول مشروعه المشترك مع جلينكور، ومزاعم متعلقة باستفادته غير القانونية من الفحم مع شركة «إسكوم».. وتمت تبرئته أيضاً في تينك التهمتين. بيد أن قطاعات مجتمعية لم تغفر له دوره في مذبحة «ماريكانا» عام 2012 حين تدخلت الشرطة ضد عمال المناجم المضربين، مما أوقع 30 قتيلاً. لكن لجنة تحقيق توصلت إلى أن تدخل رامافوزا لم يتسبب في زيادة أعداد الشرطة في الموقع، وأنه لم يكن على علم بموعد التدخل الأمني. وإثر ذلك عينه زوما نائباً للرئيس في مايو 2014، لتشمل مسؤولياته تمثيل أعمال السلطة التنفيذية لدى البرلمان، وبرمجة مثول أعضاء الحكومة أمام السلطة التشريعية. كما ترأس لجنة التخطيط الوطني المعنية برسم الخطط المستقبلية للبلاد. كان ينظر إلى رامافوزا منذ وقت طويل على أنه مرشح رئاسي محتمل، وكان يعد الوريث المرشح لخلافة مانديلا، لكنه خسر المنافسة على رئاسة «المؤتمر الوطني» أمام ثابو امبيكي عام 1997، ليتوارى عن الأنظار ويدخل مرحلة من العزلة السياسية دامت عدة أعوام، كرسها لأعمالها التجارية الخاصة، إذ بات أحد أغنى رجال الأعمال في جنوب أفريقيا، بثروة قدرتها «فوربس» بنحو 675 مليون دولار، تشمل شركات تعدين ومقاولات ومتاجر للأثاث و145 فرعاً من سلسلة مطاعم «ماغدونالد» العالمية. بيد أن عودته للواجهة كنائب للرئيس أحيت حلمه القديم بالرئاسة، خاصة بعد فضائح الفساد التي حاصرت زوما وأضعفت موقفه داخل حزبه («المؤتمر الوطني الأفريقي»)، ما مثل اللحظة المناسبة لرامافوزا كي يستأنف سعيه الدؤوب للرئاسة، فترشح في ديسمبر الماضي لخلافة زوما على رأس الحزب، واستطاع الفوز على منافسته «نكوسازانا دلاميني زوما»، مطلقة جاكوب زوما ورئيسة مفوضة الاتحاد الأفريقي السابقة، بأغلبية 2440 صوتاً مقابل 2261. وفي يوم الثلاثاء الماضي قرر الحزب، من خلال لجنته التنفيذية المجتمعة، عزل جاكوب زوما من رئاسة البلاد، وقالت وسائل الإعلام الرسمية إن رامافوزا أبلغ بنفسه زوما قرار الحزب، والذي منحه 48 ساعة لتقديم استقالته. وبعد رفض وتعنت أبداهما هذا الأخير، رضخ في نهاية المطاف للضغوط القوية من جانب حزبه، وقدم استقالته عبر خطاب وداع وجهه للشعب، الخميس الفائت. وفي اليوم التالي كان رامافوزا الوحيد أمام البرلمان، لذلك لم تتطلب تسميته رئيساً أي تصويت. وبعد تأديته اليمين الدستورية وجه خطاباً للشعب، شكر خلاله زوما على ما قدمه من «خدمة للأمة»، ووعد بالقضاء على الفساد، وباتخاذ قرارات تضع البلاد على طريق النمو والازدهار، وشدد على جذب الاستثمارات الخارجية، وتوفير الوظائف للشباب، والحد من الدّين العام الذي مثل مشكلة تفاقمت في عهد سلفه.. وفي هذا عموماً ما يعطي الأمل مجدداً لجنوب أفريقيا! محمد ولد المنى