في عام 2014 قاد الجيش التايلاندي انقلاباً عسكرياً ضد الحكومة المدنية المنتخبة. وكان أحد المبررات وقتذاك استعادة الأمن والهدوء واللحمة الوطنية بعد أشهر طويلة من المظاهرات والاحتجاجات والصدامات ما بين تياري ذوي القمصان الحمراء المؤيد لرئيس الوزراء الأسبق «تاكسين شيناواترا» المطاح به في انقلاب عسكري عام 2006 والمتهم بالفساد وعدم الإخلاص للملكية، وذوي القمصان الصفراء المعادين لشيناواترا والمؤيدين للبلاط الملكي ورئيس الوزراء أبهيسيت فيجا جيفا. أما المبرر الثاني فقد كان القضاء على الفساد في دوائر السلطة والحياة السياسية. وقتها أيضاً وعد الجنرالات بإعادة الحكم للمدنيين في غضون عام واحد بعد استكمال بعض الإصلاحات الكفيلة بفرض هيبة القانون والتصدي لمظاهر الفساد، والحيلولة دون اتساعه، ووصوله إلى قيادات البلاد العليا، ناهيك عن تذكير الشعب بضرورة الهدوء من أجل ضمان عملية الخلافة الملكية بسلاسة حيث كانت صحة الملك «بهوميبول أدونياديت» تمر في مرحلة حرجة. نجح جنرالات الجيش مذاك في إعادة الهدوء والاستقرار للبلاد، وفرض القانون بالقوة، وإنْ بقي الانقسام المجتمعي كامناً. لكن ما فشلوا فيه هو ليس القضاء على الفساد فحسب وإنما أيضاً التخلي عن السلطة وإعادتها إلى الساسة المدنيين. إذ ظلوا يؤجلون الانتخابات عاماً بعد عام بحجة عدم استكمال الإصلاحات التي وعدوا بها، الأمر الذي تآكلت معه شرعيتهم الضعيفة أصلاً، وخلقت تذمراً مضاعفا في أوساط العامة. ثم جاءت وفاة الملك أدونياديت ذي الشعبية الكاسحة، ليـخلق الجنرالات مبرراً جديداً لبقائهم في الحكم حتى تنتهي فترة الحداد الطويلة عليه، وينصب ولي عهده الأمير «مها فاجيرالونجكورن» ملكاً جديداً. مع مطلع فبراير الجاري عادت مسألة الفساد تطل برأسها من جديد وتشعل مواقع التواصل الاجتماعي التايلاندية، مذكرة الجماهير بأن فساد الجنرالات الحاكمين حالياً لا يقل عن فساد الساسة المدنيين الذي كان أحد مبررات استيلائهم على الحكم، وأن شرعيتهم باتت محل سؤال أكثر من أي وقت مضى. وحكاية هذا التطور تتلخص في أن نائب رئيس الحكومة العسكرية الجنرال «براويت وونجسوان» البالغ من العمر 72 عاما، والذي يعتبر الرجل الثاني في السلطة بعد رئيس الحكومة الجنرال «برايوت تشان ــ أوتشيا» أراد أن يحجب أشعة الشمس عن وجهه بيده خلال التقاط صورة جماعية مع زملائه من أعضاء المجلس العسكري الحاكم، فتبين بعد تدقيق أحد الصحفيين في الصورة الملتقطة أن المسؤول التايلاندي الرفيع يضع في معصمه ساعة ثمينة لا تقل قيمتها عن 80 ألف دولار، ويضع في أصبعه خاتما ثمينا من الألماس الحر. وبطبيعة الحال انتشر الخبر كالنار في الهشيم بين التايلانديين المتذمرين أصلا من الجنرالات الذين يحكمونهم منذ عام 2014 دون الوفاء بوعودهم. والحال أن ساعة وخاتم الجنرال براويت أشعلت الساحة المحلية باحتجاجات وصلت صداها إلى خارج الحدود، واضعة حكومة العسكر في موقع حرج داخليا وخارجيا أيضا. فداخليا راح كارهو العسكر يبحثون وينقبون وراء الجنرال ليكتشف أحدهم أن الجنرال مولع باقتناء الأفخر والأثمن من الساعات والمجوهرات وأنه يمتلك منها 25 ساعة تزيد قيمتها على 1.25 مليون دولار، ومن ضمنها ساعات رولكس وباتيك فيليب واوديمار بياجيه وغيرها من الساعات التي لا تـصنع إلا بإعداد محدودة وبناء على طلبات خاصة. كما تم الكشف من خلال متابعة صور التقطت للجنرال في مناسبات مختلفة سابقة أنه منذ وصوله إلى السلطة تغير ذوقه فأصبح يرتدي ساعات جديدة أكثر حداثة وأغلى ثمناً. ولعل الأمر الذي تسبب في غضب التايلانديين أكثر فأكثر هو أن الجنرال «براويت» لم يعلن عن أي من هذه الساعات الثمينة في إقرار الذمة المالية التي قدمها حينما تولى منصبه قبل أربعة أعوام، ناهيك عن أن العسكر هم أنفسهم من أسس ما يسمى بـ «وكالة مكافحة الفساد»، بل من اقترح أيضاً تطبيق عقوبة الإعدام على الساسة الذين تثبت ضدهم حالات الفساد، وذلك من باب امتصاص غضب المحتجين ضد مظاهر الفساد في الدولة وتطييباً لخواطرهم. لكن كيف رد الجنرال على اتهامات الفساد التي وجهت له؟ يقولون في مثل هذه المناسبات إن رد فلان من الناس عذر أقبح من ذنب. وهذا تحديداً ما حدث مع جنرال الساعة والخاتم، الذي أراد دفع تهم الفساد عن نفسه فقال إن ساعاته يستعيرها من أصدقائه، وإن الخاتم الماسي يخص أمه. أما المتحدث باسم «وكالة مكافحة الفساد» التايلاندية والتي يترأسها جنرال مقرب من «براويت» ــ وهنا تكمن المشكلة حينما يكون مثل هذا المسؤول مقربا من المتهم ــ فقد قال ما معناه إنه ليس غريباً أن يستعير الأصدقاء من بعضهم البعض أشياء يرتدونها، فبدأ المتحدث كما لو أنه صوت لسيده. وكانت نتيجة هذا التصريح أن استفز صامتين كثراً في مواقع التواصل الاجتماعي وجعلهم يدلون بدلوهم مما زاد الساحة اشتعالاً. فعلى سبيل المثال رد أحد الناشطين ضد الفساد على تصريحات المتحدث الرسمي آنف الذكر متسائلاً بسخرية: «هذه الساعات تصنع منها نسخاً محدودة، فكيف يمكنكم إقناعنا بأن حجم معصم الجنرال هو نفس حجم معصم أصدقائه الذين يستعير منهم على حد زعمه؟». المراقبون يرون أن المجلس العسكري الحاكم في بانكوك يعيش في ورطة اليوم. فإن عاقب جنرال الساعات بالإقالة، فإنه كمن يدين نفسه. وإن لم يعاقبه فإنه سيبدو موافقا على فساد عضو رئيس من أعضائه. وفي الحالتين سيشكو من انعدام ثقة التايلانديين فيه. وفي اعتقادنا أن الموضوع سيكون أول اختبار للعاهل التايلاندي الجديد، بمعنى هل سيقتدي بوالده في فرض التغيير بمجرد إشارة مبطنة منه لمن في السلطة التنفيذية؟