من تعقيدات قضايا الهجرة والاندماج في الغرب أنه لم يعد سهلاً على الإنجليز حتى إبداء الاحترام والتقدير للجنود المسلمين في الجيش البريطاني، ممن يسقطون دفاعاً عن الوطن وخدمة العلم، إذ صار مجرد الاحتفاء بتضحياتهم من قبل السلطات الرسمية.. محفوفاً بالمخاطر أحياناً! يورد «بول كوليير» في دراسته عن ظاهرة الهجرة الدولية نموذجاً عن ردود أفعال المجتمع على موت جنود بريطانيين كانوا يقاتلون في أفغانستان كمثال.. ويقول: «لقد نقلت جثث هؤلاء الجنود إلى قاعدة جوية في بريطانيا، وهناك تقليد كان قد نشأ أخيراً يقتضي أن تنقل التوابيت ويطاف بها في أرجاء البلد، حيث يصطف الناس على جوانب الطرق لكي يعبروا عن احترامهم وتقديرهم للضحايا. هذا في ذاته مجرد انعكاس لتقليد اجتماعي أكثر أهمية، مفاده أن البطولة والتضحية من أجل الوطن لابد من أن تقابلا بالتكريم. ويمثل الجنود البريطانيون الذين قاتلوا في أفغانستان طيفاً واسعاً من الإثنيات التي يتألف منها المجتمع البريطاني، وكان من بينهم رجل بريطاني مسلم. لقد أجريت مقابلة تلفزيونية مع أحد أفراد عائلة ذلك الجندي، فتكلم فيها عن شجاعته، وافتخار عائلته لأنه أدى واجبه. غير أن المتكلم كان خائفاً جداً من أعمال انتقامية محتملة يمكن أن تحصل من جانب أقلية صغيرة تتسم بالعنف من مسلمين بريطانيين آخرين، فلم يكشف عن اسمه، ولا حتى وجهه: لقد أجريت معه المقابلة من وراء ستار». [الهجرة: كيف تؤثر في عالمنا؟ ص87 - 88]. هل يتسبب تدفق المهاجرين إلى المجتمعات الغربية مثلاً، في تزايد «الأنانية الإثنية»، بمعنى تراجع التعاطف مع احتياجات القادمين الجدد؟ في سنة 1991 يلاحظ الباحث أن أغلبية واسعة من البريطانيين، 58 بالمئة، وافقت على أن تقوم الحكومة بإنفاق مزيد من الأموال على الإعانات الاجتماعية حتى إذا نجم عن ذلك فرض المزيد من الضرائب. ولكن مع حلول سنة 2012، انخفض عدد هؤلاء حتى أصبحوا أقلية غير مؤثرة، 28 في المئة، وأثار أستاذان بارزان في جامعة هارفارد نظرية حول موقف الأوروبيين والأميركان من تقبل فكرة إعادة توزيع الثروة وقالا متوقعين «كلما زاد مستوى التنوع الثقافي، انخفض رصيد إعادة توزيع الثروة وتحقيق الرفاهية». فقد شهدت كاليفورنيا مثلاً أعلى نسبة لتدفق المهاجرين مقارنة بغيرها من الولايات المتحدة. وكل هؤلاء المهاجرين كانوا قد وصلوا خلال السنوات الخمسين الماضية، لأن أميركا كانت تتبع سياسة «الباب المغلق» حتى الستينات، وكان معظم المهاجرين إلى كاليفورنيا يندرجون ضمن المستوى الأدنى قائمة توزيع الدخل. ورغم ثراء الولاية انهارت فيها الخدمات الصحية والتعليمية، فالتعليم هناك «مقارب اليوم لمستواه في ولاية ألاباما، أي في الحضيض». ويضيف كوليير: «حرصت كاليفورنيا في السابق على تعليم الفقراء فيها، أما الآن فهي تحرص على الزج بهم في السجون». وما هذا بسبب فقر الولاية بل بسبب نجاح إضراب الأثرياء في وضع سقف محدد للضرائب، بعد أن تسببت الهجرة الجماعية إلى تقويض الإحساس بتعاطف السكان الأصليين من الأغنياء مع الفقراء، وصاروا ربما ينظرون إلى القادمين الجدد «كجماعة منعزلة لا ينتمون إليهم ولا إلى أبنائهم». وقد يبادل المهاجرون السكان الأصليين المشاعر ولا يعترفون بهم أو بقيمهم. ومن الخطورة بمكان ألا ينظر السكان الأصليون والمهاجرون لبعضهم كأفراد ضمن مجتمع مشترك. ويتوصل الباحث إلى قاعدة نظرية تقول: «كلما كانت المسافة الثقافية كبيرة بين المهاجرين والسكان الأصليين، كان معدل الاندماج قليلاً. وعلينا أن نتذكر أن الاندماج يمكن أن يحصل من قبل المهاجرين الذين يستوعبون جوانب من ثقافة السكان الأصليين، وكذلك من قبل السكان الأصليين الذين يستوعبون جوانب من ثقافة المهاجرين». ويثير الباحث سؤالاً مهماً يجدر بنا أن نبحث نحن في العالم العربي والإسلامي دلالاته وإجاباته، فهو يميز بين «المهاجرين» و«المستوطنين». ويقول إن المهاجرين يتركون مجتمعهم الذي ينتمون إليه في الأصل وينضمون إلى مجتمع جديد، وهذا ما يجعل من السهولة عليهم تقبل الحاجة إلى الاندماج. أما المستوطنون، فإنهم يفتقرون إلى نوايا الاندماج لـ«أنهم يتوقعون الإبقاء على قيمهم وثقافتهم في المجتمع الآخر الذي يصلون إليه».. فكيف نصف أو نصنّف العرب والمسلمين في أوروبا وأميركا؟ إن المهاجرين أنواع.. فقد يتقبلون الاندماج والانصهار الثقافي، وقد يأتون كانعزاليين من الناحية الثقافية والاجتماعية في الوقت الذي يشاركون فيه اقتصادياً، أو يمكن أن يأتوا كمستوطنين وقد عقدوا العزم على نشر ثقافتهم وسط السكان الأصليين. المهاجرون إلى بريطانيا باتوا أكثر نزوعاً إلى التكتل في مكان ثابت بالمدن الإنجليزية خصوصاً لندن التي يتكتل المهاجرون داخل المدينة بينما ينتقل السكان الأصليون إلى الضواحي. ولا يتخلى المسلمون مثلاً عن الروحية الانعزالية لأسباب مختلفة معقدة.. يقول الباحث: «يبدو الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين إلى فرنسا أقل استعداداً من آبائهم للسماح لأطفالهم بالأكل في مطاعم المدارس، وتتميز النساء البنجلاديشيات / البريطانيات بصورة متزايدة بالحرص على ارتداء النقاب، بينما في بنجلاديش نفسها لا يلبسن هذا النوع من الحجاب، في هذه الحال من الواضح أن المهاجرين لا يتمسكون بممارسات في مجتمعهم الذي ينتمون إليه في الأصل، لكنهم يريدون أن يميزوا أنفسهم عن السكان الأصليين. في بريطانيا أدى هذا الانعزال الثقافي إلى اقتراح قدمه رئيس أساقفة كانتربري بأن يقدم البرلمان نظاماً قضائياً موازياً يستند إلى الشريعة الإسلامية، وهذا من شأنه أن يكون مثالاً نموذجياً على المهاجرين الذين يأتون بمؤسساتهم إلى البلد الذي ينتقلون إليه».