إن الطريقة الوحيدة لفهم مشكلة الحدود الأميركية المكسيكية المضطربة، مثلما يوضح فرانسيسكو كانتو في كتاب «الخط يصبح نهرا»، تتمثل في وضع الأرقام، والإحصائيات، ونصف تريليون دولار من التجارة البينية، ومشاعر الغضب التي أثارها «الجدار».. كل ذلك جانباً، لأنها جميعها أشياء تخدّر المرء وتبلّد أحاسيسه، وبالتالي تحول دون الفهم الحقيقي لهذا الموضوع الشائك. وبالمقابل، وحتى ينفذ المرء إلى صميم المسألة، فإن عليه أن يذهب إلى الحدود، ويرى وجوه الناس هناك، ويستمع إلى قصصهم بإنصات وتمعن. «كانتو» عمل على مدى أربع سنوات ضمن قوات حراسة الحدود الأميركية في ولايات أريزونا وتكساس ونيوميكسيكو المتاخمة للمكسيك، والتي تُعتبر «بوابة» المهاجرين السريين القادمين من أميركا اللاتينية الذين يمنون النفس بحياة أفضل في الولايات المتحدة، فيركبون غمار رحلة عبور محفوفة بالمخاطر، حيث القيظ الشديد نهاراً والبرد القارص ليلاً، منطقة تنشط فيه عصابات التهريب والمخدرات والأسلحة وتتنافس. كانتو أميركي مكسيكي من الجيل الثالث، نشأ في المنطقة الحدودية. والدته عملت في القطاع الحكومي خلال معظم مسيرتها المهنية كحارسة غابات. ودرس كانتو في الجامعة، وتخصص في العلاقات الدولية، واطلع على سياسة الحدود والتاريخ، وتخرج بمرتبة مشرف. ولكن بعد ذلك، اختار لنفسه مسارا مهنيا بعيدا كل البعد عن مجال تخصصه. فسألته أمه: «ألا تعتقد أن مهنة شرطي حدود هي دون مستواك؟». فكان جوابه: «إنني لا أرى أي طريقة أخرى أفضل منها لفهم المكان فهماً حقيقياً». ثم أضاف: «إنني لن أفهمه أبدا إلا إذا كنت قريبا منه». وهكذا، انضم كانتو إلى أكبر وكالة لإنفاذ القانون في الولايات المتحدة. وقد كان معجبا بزملائه عموما، فجميعهم رجال، ونصفهم من اللاتينيين، ومعظمهم يسعون وراء مسار مهني جديد على الحدود، بمعنى آخر، من أجل حياة جديدة، تماما على غرار المهاجرين غير الشرعيين الذين يفترض أن يلقوا عليهم القبض. كانت مهمتهم تتمثل في انتظار الإشارات الصوتية لأجهزة الاستشعار التي تشير إلى محاولة عبور غير شرعية، ومسح الصحراء بأجهزة الرؤية الليلية، وتقفي آثار أقدام المتسللين. الكتاب يكشف النقاب عن الوجه الإنساني لأزمة المهاجرين غير الشرعيين الذين يجازفون بأرواحهم ويحاولون التسلل إلى الولايات المتحدة عبر الحدود. فالكثير من هؤلاء يستسلمون في منتصف الطريق، والكثير منهم يموتون. وفي هذا الصدد، ينقل الكتاب حواراً دار بين كانتو ومهاجريْن -رجل وزوجته- تاها في الصحراء بعد أن تخلى عنهما دليلهما، فأويا إلى كنيسة: إن الحدود خطيرة جدا. فكان جواب الزوج، الذي كان سيصبح أبا قريبا: أجل صحيح ولكن الوضع أخطر حيث كنا نعيش. وفي الأثناء، أخذت الكوابيس تقض مضجع كانتو ليلا لأن الحدود بالنسبة له تمثل أكثر من مجرد خط في الرمال. إنها خط مجرد يفصل حالتين ذهنيتين تسعيان وراء المصالحة. فمن جهة، هناك صوت أجهزة التكييف الهوائي لمركز المراقبة في مدينة توسن (ولاية أريزونا) حيث يتعرض كانتو للتخدير وأحاسيسه للتبلد بسبب صور كاميرات المراقبة والتقارير الاستخباراتية. ومن الجهة الأخرى –وهي مكان غير محدد بشكل دقيق أبدا، ولكن يفهم أنه «هناك» من الناحية النفسية- يوجد الخوف. بيد أن مشكلة الحدود الأميركية المكسيكية هي قبل كل شيء مسألة تتعلق بأشخاص ووجوه وأسماء، وليس مسألة أرقام مجردة، وتتعلق أيضا بـ«الإصابة المعنوية» التي عانى منها كانتو وزملاؤه بسبب طبيعة عملهم. معاناة تجسدها بشكل جيد قصة خوسيه، صديق كانتو وموضوع الثلث الأخير والمؤثّر من الكتاب. خوسيه هذا مهاجر عاش في الولايات المتحدة طيلة 30 عاما. وهو متزوج وأب لثلاثة أبناء، وزميل كانتو في عمله الجديد بمقهى في أحد مراكز التسوق في مدينة ألباسو. كانا يتناولان وجبة الإفطار معا كل يوم. وذات يوم، اضطر خوسيه للعودة إلى المكسيك ليرى أمه التي كانت تحتضر على فراش الموت. وكان يدرك المخاطر، وبالفعل، مُنع من قبل سلطات الهجرة على الحدود من العودة إلى الولايات المتحدة بعد الجنازة. فقدّم الطعون تلو الطعون، وكتب رسائل الاستعطاف، ودق جميع الأبواب، واستشهد بالشهادات التي تشهد على نزاهته واستقامته. فهو شخص مكد ونزيه ومتدين ويحب أسرته، أي خصال المشروع الأميركي نفسها. غير أن العمليات البيروقراطية والبروتوكولات الإدارية لا تعترف بذلك. فتم ترحيله. ثم حاول الانضمام إلى عائلته من جديد، ولكن قبض عليه ثم رحِّل من جديد. وحاول من جديد وفشل، ثم حاول من جديد وفشل، المرة تلو الأخرى. خوسيه أخبر كانتو بالأسباب التي جعلته يستمر في المحاولة. فحجاجه لا يتعلق بالقانون، ولا حتى بالعدالة، وإنما بشيء أكبر بكثير إذ يقول: «إن الأمر معقد.. إنني لا أريد أن أتسبب في أذى.. ولكني مضطر لخرق القانون.. إنها ضرورة. إنها العواطف، إنه الحب». وكأن كانتو يقول: إن هذا هو السبب الذي يجعل مهاجرين آخرين أيضا يستمرون في القدوم إلى الولايات المتحدة، مهما تكن العراقيل التي تنصب أمامهم. وإنكار ذلك يضر بالجميع على كلا طرفي الحدود. محمد وقيف الكتاب: الخط يصبح نهرا المؤلف: فرانسيسكو كانتو الناشر: ريفرهيد بوكس تاريخ النشر: 2018