كان من المنتظر أن توحي الألعاب الأولمبية الشتوية التي تنظم في مدينة «بيونج تشانج» في كوريا الجنوبية، بسلسلة من التوقعات المتعلقة بحالة السلم والحرب في شبه الجزيرة الكورية. وكانت المواقف العدائية المتبادلة بين الرئيس دونالد ترامب ورئيس كوريا الشمالية الدكتاتور «كيم جونج أون» خلال العام الماضي، وخاصة بعد أن عمد «كيم» إلى تكرار التجارب الصاروخية والنووية، أن ترفع مؤشرات التوتر في معظم أرجاء آسيا وخاصة في الصين واليابان وروسيا، بالإضافة للولايات المتحدة. وكان الخط السياسي للولايات المتحدة ضد كوريا الشمالية قبل انطلاق الألعاب متشدداً جداً. ولم تكن ثمّة نيّة للتفاوض حول تحسين العلاقات بينهما ما لم تعلن كوريا الشمالية عن إلغاء برنامجها النووي وتجميد برنامجها لتطوير الصواريخ البالستية بعيدة المدى. ومثلما كان متوقعاً، فقد رفضت بيونج يانج هذه الشروط واتخذت قراراً ينطوي على الحكمة والتعقل بعد أن رأت أن الطريقة المفضلة للتخفيف من تشدد مواقف الأميركيين تكمن في العمل مع رئيس كوريا الجنوبية الجديد والمعتدل «مون جاي إن». وكان «مون» قد تلقى دعوة لزيارة «بيون يانج» بعد انتهاء دورة الألعاب. وفي الوقت ذاته، وافقت الكوريتان على التعاون في مجال تشكيل فريق مشترك لخوض منافسات الألعاب الأولمبية وخاصة في لعبة الهوكي على الجليد للسيدات. وشارك في الألعاب ستة من مواطني كوريا الشمالية المقيمين في أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا)، وكانت هذه هي الزيارة الأولى لهم لوطن الأجداد. ومنذ زمن بعيد، كانت دبلوماسية تعزيز الصداقات التي تبناها الكوريون الشماليون تعمل لمصلحتهم. وخلال حفل افتتاح الألعاب، ظهر نائب الرئيس الأميركي مايك بينس وهو يجلس أمام «كيم يو جونج» مباشرة، وهي الأخت الصغرى لرئيس كوريا الشمالية «كيم جونج أون». وفي الوقت الذي كانت تبدو فيه دائمة الابتسام وتفرط في مصافحة مضيفيها الكوريين الجنوبيين، فقد كان «بينس» يحرص على تجنب التقاء عينيه بعينيها وواصل متابعته للاحتفال من دون أن يُظهر أي ميل لأن يكون لطيفاً أو «دبلوماسياً» معها. ولم يكن هذا هو السلوك المفضل لممثل القوة الأعظم، وخاصة بعد أن اتضح أن هذا السلوك يصب في مصلحة كوريا الشمالية التي تتلخص استراتيجيتها في خلق أسس الشقاق بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية حول الطريقة التي يجب التعامل بها مع المشاكل الخطيرة في شبه الجزيرة الكورية. وعندما عاد «بينس» إلى الولايات المتحدة، تعرض لنقد شديد بسبب سلوكه الفظّ خلال حفل افتتاح الألعاب. ويأتي وجه الاستغراب من سلوكه هذا من أنه صرح للصحفيين الذين كانوا يرافقونه في الطائرة أثناء عودته، بأن الولايات المتحدة حضَّرت بالفعل الظروف الملائمة للتحادث مباشرة مع كوريا الشمالية بشرط أن تتخذ بيونج يانج خطوات حاسمة لإبطاء أو إلغاء برنامجيها النووي والصاروخي. ويُعتبر هذا التنازل من الولايات المتحدة مهماً جداً ويوضح النجاح متوسط المدى للمبادرة الكورية الشمالية. ومع ذلك، فإن دورة الألعاب لن تنتهي رسمياً قبل يوم 25 فبراير الجاري. وخلال الأيام المقبلة، من المحتمل أن نسمع عن المزيد من المفاجآت. وسوف يتعلق الاختبار الحقيقي بموافقة «مون» على زيارة كوريا الشمالية وعلى طبيعة الاتفاقيات التي يمكنه أن يعقدها مع إدارة ترامب قبل القيام بتلك الزيارة. ويساور الأميركيين القلق من أن يتبع «مون» خط الدبلوماسية الناعمة مع المسؤولين الشماليين ليجهض بذلك مفعول التهديدات المتكررة من فريق ترامب الذي يواصل التأكيد على استحالة حدوث أي تطور في العلاقات مع كوريا الشمالية ما لم تنزع من طرف واحد أسلحتها النووية والصاروخية. وقبل انطلاق الألعاب الأولمبية، راجت أحاديث عن أن الولايات المتحدة كانت تخطط لتوجيه ضربة عسكرية محدودة ضد كوريا الشمالية رداً على انتهاكها للعقوبات وممارساتها الاستفزازية ضد جاراتها، بالإضافة للهجمات الافتراضية التي شنّتها ضد المستشفيات والبنوك والشركات الغربية في شهر ديسمبر 2017. ويرى معظم المحللين أن الولايات المتحدة لو نفذت تلك الضربة بالفعل، فإن المنطق العسكري يقول بأن كوريا الشمالية ستجد العديد من الأسباب القائمة التي تمنعها من الانتقام وخاصة منها ما يتعلق بالتفوق العسكري الكبير للولايات المتحدة. إلا أنه من غير الممكن الاحتكام إلى المنطق وحده في مثل هذه الحالات. ولا شك في أن هذا السيناريو سيكون محفوفاً بالمخاطر ولا يرحب به أقرب حلفاء أميركا في المنطقة وخاصة كوريا الجنوبية واليابان. والحقيقة أن كوريا الشمالية لا تستشعر حتى الآن الحوافز الكافية لنزع أسلحتها النووية والصاروخية من ذاتها. ولا يزال رئيسها يذكر النهاية التي آل إليها صدام حسين ومعمر القذافي اللذين أعلنا عن نزع أسلحتهما النووية، ثم قتلا في نهاية المطاف. وهذا يعني أن الأمر يتطلب أكثر من مجرّد تبادل الابتسامات والأحاديث لإنهاء الصراع الكوري الذي بقي دون حلّ منذ عام 1950.