هناك من أعطى مفهوم «السيطرة الصامتة» بعداً أوسع وأعمق، وجعلها للشركات الاحتكارية الكبرى في الغرب على السلطة السياسية، من خلال تحكمها في الاقتصاد وإدارة الدولة، رغم أنها غير منتخبة من الشعب، وهو أمر يضر بالعدالة والديمقراطية. وقد تسارع نمو هذه الشركات عقب انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، لتصبح دولة السياسة هي دولة الشركات، ورغم أن الحكومات لا تعترف بهذا في الناحية العلنية، فإنها خضعت بطرق عدة لإملاءات وضغوط أصحاب رؤوس الأموال الضخمة، وجازفت في دول كثيرة بانتهاك العقد الضمني بين المواطن والسلطة، بل باعت الأول لهذه الشركات بثمن بخس، استخدمت بدورها الإعلام بشكل مفرط في تزييف وعي الناس، وراحت تضطلع بأدوار ملموسة، هي بالأساس من وظائف الدولة، في مجالات التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية، وإدارة موارد البيروقراطية. ووفق كتاب نورينا هيرتس، «السيطرة الصامتة: الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية» فقد غدت الحكومات في ظل هذا الوضع البائس أشبه بحُكام الألعاب الرياضية، الذين يديرون اللعب وفق قواعد تحددها الشركات الاحتكارية الضخمة تحت شبكة مكثفة من القوانين تتضمن تسهيلات غير مسبوقة في مجال الإجراءات وتيسيرات ضرائبية وامتيازات تشجيعية زادت موارد الشركات على موارد الدول وعلت مرتبة رجال المال والأعمال على مرتبة رجال السياسة. وانطلق هذا الاتجاه من الولايات المتحدة الأميركية إلى أوروبا، ومنهما إلى بقاع شتى في العالم بأسره، ما قاد إلى تراجع الثقة في الحكومات، الذي أدى بدوره إلى تزحزح نسبة المشاركة في الحياة العامة، ومنها الانتخابات، بشكل لافت، رغم اللافتات العريضة التي ترفع شعارات «الليبرالية الجديدة»، ومنها الخصخصة واقتصاد السوق واحترام الحريات العامة. والغريب أن الحكومات استسلمت لفكرة إبعاد المواطنين عن السياسة، إذ صارت الحرية مكفولة في المجال الاقتصادي، لكن تم تقييد المجالين السياسي والمدني، فخلق الفرد المؤمن باقتصاد السوق، موزعاً على حالات محددة هي: المضارب والسمسار والوسيط والمستهلك والزبون لا المواطن كامل الأهلية، مكفول الحقوق السياسية، والقادر على المحاسبة والمراجعة ورفض السياسات التي تضر بالصالح العام، أو نقد الاتجاهات الجديدة مثل التنمية المستدامة والمسؤولية الاجتماعية والتمكين وتحميل مؤسسات المجتمع المدني مسؤولية تنفيذها. كما يمكننا الحديث عن «السيطرة السياسية الصامتة» أو المتوارية، وربما الناعمة، وغير المعلنة، في مجال آخر، مثلما ذهب ماجد الحاج في حديثه عن تعليم الفلسطينيين في إسرائيل، حيث يتم استعمال التعليم ليس كأداة للحراك الاجتماعي وآلية للتغيير، إنما وسيلة للتحكم والسيطرة والضبط السياسي من قبل المهيمن، من خلال التدجين والحفاظ على بيئة التفاعل التقليدية التي تحاول أن تسلب الفلسطينيين في صمت شعورهم بالوطنية، وحقوقهم التاريخية. وهناك أيضاً ما يمكن أن تسمى «إمبراطوريات الصمت»، وهي إمبراطوريات سادت ثم بادت، كانت تعبر عن وجودها ومجدها بالنحت والبناء ورسم الرموز وحفر الكلمات على الصخر، وكان من يقومون بهذا الفعل الذي حفظ لنا المنتج الحضاري لهذه الإمبراطوريات يلوذون بصمت عميق، أو أن ما تركوه الآن، وتكتشفه البعثات الأثرية تباعاً، لا ينطق أمامنا، إنما نراه صامتاً، وإنْ كان في حقيقة الأمر ينطق بغير صوت، أو ننطق نحن به ونحن نحاول فك الرموز، وقراءة الكلمات، أو ربط الرسوم والنقوش بمعانٍ محددة، وهنا يقول عالم الاجتماع الفرنسي «جان دوفينيو»: «طالما اعتقدنا أن الكتابة هي التي سوف تمدنا بكل ما يجري في تلك الإمبراطوريات، فمنذ اكتشاف حجر رشيد ونحن ما زلنا نكتشف الرموز، وكذلك الحال بالنسبة لسومر وآشور وبيرو، فهل سنعيد بناء تاريخ مجتمعاتنا على أساس ما هو مكتوب على توابيت الأب لاشيز أو الرسومات الجدارية الموجودة على قوس النصر؟ لقد توصلنا إلى بعض القوانين في بابل وبيرو ومصر القديمة من خلال ما تم اكتشافه، ولكننا مع ذلك ما زلنا نجهل كيف كان الناس يتقبلون تلك القوانين؟ وهل كانوا يحتجون عليها؟ أم كانوا يحترمونها؟». ويمكننا أيضاً أن نتحدث عن «العنصرية الصامتة»، وهي موجودة بطريقة لا يستهان بها في بعض المجتمعات، ومنها المجتمع الفرنسي، حيث تقوم «الأغلبية الصامتة» بعدة تصرفات وسلوكيات يومية صغيرة، تبرهن عليها، مع أنها محظورة قانوناً، أو على المستوى الرسمي. كل هذه صور للسيطرة السياسية التي تتم دون جلبة أو صخب أو ضجيج، وهي في بعض الأحيان تكون أقوى بكثير من استعمال البطش أو القوة المادية الظاهرة في تفريغ الديمقراطية من مضمونها، أو نزع ما اكتسبته الشعوب من حريات وحقوق بعد نضال طويل.