معاداة السامية تعود، ليس فقط كشعور بغيض في هامش صغير وليس فقط في قسم التعليقات في موقع «برايتبات نيوز» من أقصى اليمين، وليس فقط في مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أن أي شخص ينشر تدوينة أو تغريدة واسمه يوحي بأنه يهودي- بل ربما دون أن يوحي بهذا- أصبح يدرك أن مواقع التواصل الاجتماعي قناة لبث التجاوزات، وأفضل حل لمثل هذه الأمور هو عدم المبالاة وحجب الشخص الذي يستخدم هذه اللغة على تويتر، لكن حين تبدأ هذه المشاعر تتسلل إلى مؤسسات التيار العام في دول أوروبية، يتطلب الأمر تحليلاً أعمق. ودعوني هنا أتجاوز عن وسط أوروبا التي من المفترض أنها سلطوية، وأتناول بريطانيا المعقولة والبراجماتية التي فرخ فيها الحزبان السياسيان الكبيران في الآونة الأخيرة صيغاً غير بريطانية من تفكير المؤامرة وجنون الاضطهاد. فهناك صيغ غريبة من معاداة السامية في أقصى اليمين من الطيف السياسي البريطاني منذ فترة من الوقت، فقد اشتهر «كين ليفينجستون» رئيس بلدية لندن السابق بأنه قارن بين صحفي يهودي وبين النازي واتهم أيضاً اليهود بالتواطؤ مع هتلر، وهو تصريح أدى إلى تعليق عضويته في حزب «العمال». وكان ليفينجستون على الأطراف لكنه أصبح في التيار العام حالياً، وعلى مدار العامين الماضيين مع تحرك حزب «العمال» نحو اليسار، ثارت مناقشات في الحزب بشأن أشخاص أنكروا الهولوكوست وتم دعوتهم في فعاليات هامشية أثناء مؤتمر حزبي وبشأن مرشح لمجلس محلي نشر تعليقات معادية للسامية وبشأن عضو من «شبكة العمال المسلمين» اتهم بنشر تعليقات معادية للسامية أيضاً، ويمتد أصل جنون الاضطهاد فيما يبدو إلى دعاية «الكوزموبوليتانية التي بلا أساس» من الكتلة الشرقية القديمة، ولكم أن تتذكروا «جيرمي كوربين» زعيم حزب «العمال»، الذي كان يكتب في صحيفة «مورنينج ستار» التي كانت تؤيد الاتحاد السوفييتي، وكان يوزعها شباب عند نواصي الشوارع. والجانب الآخر من الطيف السياسي البريطاني يلتحق بالركب أيضاً، ومصادر نظريات المؤامرة هنا مختلفة، حيث تمتد إلى اليمين المتطرف الدولي ودول شرق أوروبا السلطوية، فقد تحدث «نايجل فاراج» الزعيم البريطاني المؤيد للخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي وصديق دونالد ترامب وستيفن بانون عن السلطة الهائلة التي يمتلكها «اللوبي اليهودي»، والتقطت الفكرة جريدة ديلي تليجراف التي كانت ذات يوم صحيفة محافظة موثوق بها، ونشرت الجريدة يوم الخميس الماضي عنواناً استثنائياً على الصفحة الأولى عن الممول اليهودي جورج سوروس و«مخططه السري لسحق الخروج البريطاني»، والقصة نفسها تناقلتها صحف بريطانية أخرى بلغة معتادة، والواقع أنها اهتمت بتبرعات ليست سرية وليست فريدة بحال من الأحوال، فهناك جماعات مناهضة للخروج البريطاني تعمل بتمويل من أثرياء تماماً، كما تعمل جماعات أخرى مؤيدة للخروج البريطاني بتمويل من أثرياء آخرين. والعنوان الذي نشرته صحيفة يمتلكها مليارديران تحوطهما السرية حقاً ويعيشان فيما يعتبر ملاذاً ضريبياً في الخارج جاء مصحوباً بمقال كرر بعض مزاعم تشويه السمعة ضد سوروس مثل أنه تم استخدامه كأداة للتأثير على مدار سنوات وبدأ من روسيا وانتشر غرباً، وذكر المقال حقيقة أن مؤسسته التي تدعم الديمقراطية وحرية التعبير قد تم مطاردتها في روسيا وأوزبكستان، كما لو أن هذا مما يؤخذ عليها، وفي اليوم التالي نشرت جريدة «ديلي ميل» التي يمتلكها ملياردير لا يقيم في بريطانيا وجريدة «صن» التي يمتلكها روبرت ميردوخ، وهو ملياردير آخر لا يقيم في بريطانيا القصة نفسها وبالتصور نفسه، ووصفت «صن» سوروس بأنه «دمية»، وأسلم التفسيرات نوايا هو أن «تليجراف» لا تعرف ما تفعله في استعادتها للتصور القديم عن شبح التلاعب اليهودي بالسياسة في الكواليس وأقل التفسيرات في سلامة النوايا هو أن ما فعلته نباح متعمد، ومن شبه المؤكد تقريباً أن صحيفتي «صن» و«ميل» تعلمان ما تفعلانه. لكن هذا جديد على الساحة البريطانية حتى بالمعايير المتدنية لصحف الإثارة البريطانية. فلماذا يحدث هذا الآن؟ وأفضل تفسير هو أن البريطانيين وهم يقلعون بجزيرتهم بعيداً عن أوروبا يجابهون شعوراً غير مألوف بالافتقار للقوة. وحملة مغادرة الاتحاد الأوروبي وعدتهم بأنهم سوف «يستعيدون السيطرة»، لكن المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي أجبرتهم على سلسلة من التنازلات المهينة. ومع بقاء عام واحد فقط على الموعد النهائي للخروج، لم تُحسم بعد أهم الأسئلة لأن الحزب المحافظ الحاكم منقسم بشدة حولها، ولم يتم اتخاذ القرارات الصعبة بشأن صفقات التجارة ووضع أيرلندا الشمالية لأنها ستثير غضب عدد كبير من الناس. وما زال حزب «العمال» يحتفظ بغموضه الاستراتيجي ولا يتحدث كثيراً، ومع تواري الوسطيين والبراجماتيين من ساحة الحياة السياسية، انتعشت خيالات جديدة في هذا الفراغ، ولا يمكن تفسير الأمر بالتأكيد أن بريطانيا التي بلا توجه تتخبط، بل يتعين أن تُلقى المسؤولية على طرف ما في كل هذه الفوضى وسوء النية. والبعض يبحث عن كبش فداء، وآخرون يكشفون مؤامرات، وربما لا عجب أن تُلقى المسؤولية على أقدم كباش الفداء وأقرب المجازات للخيال. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»