بدأت عملياً الحرب التالية ضد تنظيم «داعش» بأشكال مختلفة، إذ تتعارض أحياناً أو تتداخل جهود الأطراف التي حاربته حتى إنهاء سيطرته الفعلية المباشرة على مساحات واسعة من العراق وسوريا، وتنطوي أحياناً أخرى على اتهامات متبادلة بين هذا الطرف وذاك بأن هناك استخداماً لمقاتلي «داعش» وخبراتهم في معارك دائرة حالياً، تحديداً في سوريا. ولعل الذين يراقبون مستقبل التنظيم أو مصيره يحارون في تفسير بعض الظواهر المستجدة، كدخول «دواعش» إلى محافظة إدلب، ويشتبهون بأنهم من الجناح الذي يرعاه النظامان السوري والإيراني، أو كالعودة غير المؤكدة لعناصر من التنظيم إلى سرت بعد عام من طردهم نهائياً من المدينة على أيدي قوات «عملية النظام المرصوص» الموالية لحكومة الوفاق في ليبيا. في غضون ذلك يبدو «ما بعد داعش» في العراق عملية بالغة الصعوبة بسبب انسحاب المقاتلين الى مناطق تراوح بين سلسلة جبال حمرين وبين صحراء الأنبار امتداداً إلى الحدود السعودية، لكن هناك جيوباً وتستدعي مطاردات في الحويجة وكركوك وديالى، بالاضافة إلى استمرار التحرّي عن«الخلايا النائمة» والمحاكمات للعناصر التي أمكن اعتقالها. ولا يكاد يمضي يوم من الاعلان عن قتلى للتنظيم في محافظات عدة. ولعل الجديد عراقياً تزايد الحديث عن جماعة «أصحاب الرايات البيضاء» التي تُعتبر «شبحاً» أصغر حجماً من «داعش»، لكنه بات يُؤرق القوات الأمنية. أما في مصر فبدأ قبل أيام تنفيذ خطة «المجابهة الشاملة» ضد الارهابيين في مناطق عدّة بينها شمالي سيناء ووسطها والدلتا والظهير الصحراوي غربي وادي النيل. ومن الواضح أن الهدف هو الانتهاء من الارهاب الذي استشرى على نحو خطير منذ منتصف عام 2013 غداة سقوط حكم جماعة «الإخوان». رافقت المرحلة الأولى والرئيسة من «الحرب على داعش» اتهامات واشتباهات شتى لو صحّت جميعاً لأمكن القول إن كل الأطراف المتدخّلة في سوريا تورّطت بشكل أو بآخر في ظهوره قبل أن تنتقل إلى محاربته، إمّا عبر التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الذي يلقي بمسؤولية انتشار «داعش» وتوسّعه على النظامين الايراني والسوري خصوصاً وعلى تركيا بدرجة أقل، أو عبر التحالف الآخر الذي قادته روسيا مع ايران ونظام دمشق وقد استخدم «الحرب على الارهاب» عنواناً للحسم العسكري للصراع السوري والإبقاء على نظام بشار الأسد. غير أن مجريات تلك الحرب في الرقّة ومحيطها أظهرت في أيامها الأخيرة سعياً محموماً من دول غربية عدّة لـ «سحب دواعشها» الذين أرسلتهم للانسلال في مهمات محدّدة داخل صفوف التنظيم. وهذا ما أتاح لروسيا أن تتهم الولايات المتحدة مراراً بأنها تدعم «داعش»، أو بالأحرى تستخدمه، إذ أن استعادته أكثر من مرّة مواقع سبق أن طُرد منها أو عرقلته عمليات لحلفاء روسيا ما كانت لتتم لو لم يتلقَّ معلومات استخبارية. ثم ها هي العملية التركية في عفرين تخلط الأوراق وتحاول إثبات أن هناك ارهاباً آخر كان ناشطاً سابقاً ضدها وزاد قوّةً بالدعم الاميركي للأكراد لمقاتلة «داعش»، معتبرةً أنه يتمثّل بأكراد «بي كي كي» (حزب العمال الكردستاني) التركي وفرعه السوري «ب ي د» (حزب الاتحاد الديمقراطي) الذين تقول إنهم يشكّلون خطراً كبيراً على أمنها واستقرارها. لكن اللافت أن العواصم الإقليمية التي تشارك أنقرة مخاوفها، أو حتى العواصم الغربية التي تقول علناً إنها تتفهّم هواجسها، تخوض معها جدلاً في شأن تصنيف الحزبين أو معاملتهما كمنظمتين إرهابيتين، بل إنها لم تُبدِ اهتماماً بتقارير مفادها أن الأكراد دفعوا إلى القتال في عفرين أعداداً من سجنائهم «الدواعش» لقاء وعود للمحليين والأجانب منهم بإزالة أسمائهم من لوائح الإرهاب. إذا لم تكن الحقائق عن ظهور «داعش» حظيت برصد دقيق في حينه فإن تحوّلاته الراهنة تستحق الرقابة والتمحيص، فالوقائع برهنت أنه كائن استخباري قابل لإعادة الإنتاج بدليل أن كل الدول احتفظت بأسرارها عنه. ويكمن الكابوس المتجدّد، وفقاً لتقرير للأمين العام للأمم المتحدة، في أن التنظيم لم يُضرب في ليبيا ومصر بالقوة القادرة على إضعافه كما حصل في سوريا والعراق، ولذلك يرى أنطونيو جوتيريتس أن «داعش» يجد باستمرار سبلاً لمعاودة الظهور من دون أن يسعى إلى غزو الأراضي والسيطرة عليها، بل يتكيف مع التطورات ويركّز على مجموعات أصغر وأكثر حماسًا من الأفراد الملتزمين. أما الحلقة المفقودة دائماً فهي المكافحة السياسية، والبعض يقول الفكرية، للإرهاب. ذاك أن الحؤول من دون عودة "داعش" أو ما يشبهه لا بد أن يكون بمعالجة الظروف التي سهّلت ظهوره.