ربما يسمح لي القارئ العزيز بالاستشهاد في مقدمة هذه المقالة بعبارة معروفة عند الاستراتيجيين، قالها أحد أعمدة التنظير والتخطيط الحربي هو «كارل كلوزفيتز»‏?، (?1780-1831?) ? وهي «إن ?تأثيرات ?دور ?العبقري ?لا ?تظهر ?كثيراً ?في ?المراحل ?الأولية ?أو ?الأنماط ?الجديدة ?للعمل ?بقدر ما ?تظهر ?في ?النجاح ?النهائي ?للعمل ?بأكمله. ?وما ?ينبغي ?علينا ?تقديره ?هو ?التنفيذ ?الدقيق ?للافتراضات ?غير ?المرئية ?وغير ?المعلنة، ?والانسجام ?السلس ?للنشاط ?في ?مجمله، ?وهذا ?لا ?يصبح ?جلياً ?إلا ?عند ?تحقيق ?النجاح ?النهائي»?. ?وأسرد ?هذه ?المقولة ?ليس ?لأقول ?إن ?الرئيس ?الفرنسي ?ماكرون ?عبقري، ?ولكنه ?حاد ?الذكاء ?في ?فهمه ?للسياسة ?وللاستراتيجية ?والتطبيق ?وتنفيذها ?كثلاثة ?محددات ?متداخلة ?في ?السياسة ?الخارجية ?والأمن ?القومي ?الفرنسي. ?والعلاقة ?بين ?تلك ?المحددات ?الثلاثة ?مترابطة ?وتعتمد ?على ?درجة ?تعقيدات ?البيئة ?الاستراتيجية ?والمستوى ?الهيكلي ?للخطر ?وطبيعة ?التخوف ?ومؤشرات ?التوقيت ?وبعد ?نظر ?القيادة ?التي ?تتربع ?على ?أعلى ?هرم ?السلطة، ?ومختلف ?الخيارات ?المتاحة ?أمامها. منذ مدة والخبراء الفرنسيون يتخوفون من ضيق نظر استراتيجي في الشأن العسكري للرئيس وبطانته في قصر الإليزيه، ولكن المفاجأة أتت لما أصدرت الوزارة الفرنسية المعنية منذ أيام سياستها العمومية في مجال التسلح والدفاع، لأنه منذ عقود لم يأتِ رئيس فرنسي بمثل هذا المخطط الذي يعيد النظر حتى في البنى التحتية العسكرية التي تتطور كل يوم كما تتطور الهواتف النقالة والحواسيب. وتعتزم فرنسا تخصيص 295 مليار يورو لموازنتها الدفاعية للأعوام السبعة المقبلة (2019-2025)، في زيادة تهدف لرفع النفقات العسكرية للبلاد لتبلغ 2 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في 2025، بحسب مشروع قيد الدرس من طرف مجلس الحكومة الفرنسي. وهذه الزيادة في الإنفاق العسكري تعتبر ليس فقط مستجداً في باقة التغييرات الجذرية التي يحدثها الرئيس الشاب لصالح فرنسا في كل القطاعات الحيوية للبلد، ولكن أيضاً قطيعة مع سياسة التقشف المالي التي فرضت طوال عقد من الزمن على الجيش، مما انعكس عليه خفض في العدد وتقادم في العتاد، قبل أن تعود الأصوات لتطالب بأموال أكثر وموارد بشرية متخصصة بعد سلسلة الأحداث الإرهابية التي عرفتها فرنسا في السنوات الأخيرة. وبحسب مشروع قانون البرمجة العسكرية الذي أعدته وزارة الجيوش الفرنسية فإن موازنة الدفاع الفرنسية التي بلغت قيمتها 34,2 مليار يورو في عام 2018 ستتم زيادتها سنوياً حتى عام 2022 بمقدار 1,7 مليار يورو، وبعدها أي اعتباراً من عام 2023 وحتى 2025 ستصبح قيمة هذه الزيادة ثلاثة مليارات يورو. فقوانين البرمجة العسكرية السابقة كانت تطلب من الجيش أن يبذل جهوداً للضغط على النفقات. وهذه المرة يطلب من الأمة أن تبذل جهداً من أجل الجيش. وفرنسا هي خامس أقوى دولة في العالم، وعسكرياً هي أقل ترتيباً بكثير من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، ولكن ما يهمني في الأمر هو الاستراتيجية والتخطيط اللذان يتمتع بهما صاحب القرار في الدولة، قارن معي: هم يتحدثون عن المستقبل إلى حدود 2040، فمثلاً أطلقت وزارة الدفاع الفرنسية دراسات تتعلق باستبدال حاملة الطائرات الوحيدة التي تمتلكها فرنسا «شارل ديغول» التي يفترض أن تخرج من الخدمة بحلول عام 2040، وكذلك أيضاً دراسات بشأن منظومة القتال الجوي المستقبلي ودبابة المستقبل... وقد فكرت ملياً في واقعنا العربي، وتمنيت لو أننا نظرنا نحن أيضاً إلى حدود 2040 وبدأت بعض الدول المحورية في المنظومة العربية في عمليات التصنيع للعتاد والأسلحة العسكرية بشراكات ذكية مع الدول الصناعية الكبرى (في إطار رابح/ رابح)، التي يمكن أن تؤتي أكلها بعد خمس عشرة أو عشرين سنة من الآن وكل بعيد قريب. والمهم أن نكون قد ربحنا الرهان وأصبحنا متمكنين من عملية التصنيع التي ستدر علينا المليارات من الدولارات وتمكن من إنشاء جيل متمكن. ولو زرت شركات صناعة الطائرات المدنية والعسكرية في أوروبا ستجد الآلاف من المغاربيين والعرب يشتغلون في مناصب عليا في تلك الشركات، فالمشكلة ليست بمشكلة موارد بشرية، ولكن المشكلة عندنا تكمن في الاستراتيجية والتخطيط داخلياً وخارجياً. والاستراتيجية والتخطيط يجب ألا تتأثر بالأهواء السياسية الضيقة وإلا فان مآلها إلى الفشل، إذ ينبغي أن تخضع لنماذج فكرية منضبطة، كما أن الاستراتيجية أيضاً تعامل السياسة على أنها أحد العوامل ولا تشارك في العملية السياسية.