أضحت السياسات الداخلية الأميركية شديدة الحزبية بدرجة أعجزت الكونجرس عن تمرير قانون خاص بالإنفاق على المدى الطويل، أو التعامل مع قضايا مهمة مثل إصلاح قوانين الهجرة، أو الرعاية الصحية الشاملة، أو تقديم التمويل الضخم اللازم لإصلاح بنيتنا التحتية المتداعية. وبسبب ذلك الانقسام العميق والمرير، والذي يرجع بصورة جزئية إلى: التغريدات الحماسية للرئيس، واللهجة القاسية والمؤججة للمنتقدين، وميل وسائل الإعلام إلى إيجاد حالة من الهوس المغذي للأخبار الفضائحية، انكفأت واشنطن على نفسها عمداً، وأصيبت بحالة من الخلل السياسي المؤرق. وفي ظل التركيز على المواجهة من أجل المواجهة وإحراز النقاط ضد الخصوم السياسيين، لا يكاد يكون هناك تركيز على دور أميركا في العالم. والمرات الوحيدة التي يولي فيها الكونجرس اهتماماً لأمور دولية هي عندما تكون هناك ميزة سياسية محلية في استرضاء المؤيدين أو مهاجمة الخصوم. ونتيجة لذلك، ستكون هناك مناقشات في الكونجرس بشأن معاقبة المنظمات التي تدعم مقاطعة إسرائيل، وفرض عقوبات على إيران أو روسيا، وبشأن تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية، أو بناء جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك، ومن ثم، فلن يكون هناك اهتمام كبير بشأن معالجة الدور الأميركي في مناطق الصراعات الملتهبة من الصومال إلى سوريا والعراق وأفغانستان. وقبل أيام قليلة، أضحى ذلك الواقع في دائرة الضوء، خلال حدث استضافه «المعهد العربي الأميركي»، هو العشاء السنوي العشرون لأعضاء الكونجرس، ولطالما كان ذلك من الفاعليات المفضلة بالنسبة لي، إذ إنه تجمع محدود يلتقي فيه أعضاء الكونجرس الأميركيون من أصول عربية، والسفراء العرب لدى أميركا، ومجموعة من أعضاء مجلس إدارة المعهد كثير منهم لديه خبرة سياسية ثرية. وهذا العشاء خاص وودي وبعيد كل البعد عن الأمور الرسمية، ويمنح للحضور فرصة أن يكونوا على سجيتهم، وأن يتبادلوا محادثات صريحة ومنفتحة بشأن المشكلات المهمة التي تواجه العلاقات العربية الأميركية. وعلى رغم كل ذلك، فقد كان عشاء العام الجاري مختلفاً، وهذا الاختلاف أوضح المشكلات الخطيرة التي مُنيت بها السياسة الأميركية وتأثيرها على قدرة دولتنا على التفاعل بصورة مفيدة مع العالم. وعلى رغم حضور بعض السفراء العرب، الذين تواجه دولهم تحديات خطيرة داخلية وإقليمية، وتتأثر مواقفهم تأثراً مباشراً بسبب السياسات الأميركية، وفي حين قدم أولئك السفراء مداخلات مفوّهة، إلا أن مناقشاتنا ظلت تعود، في كل مرة، إلى الانقسام والاستقطاب الحزبي الذي يسبب خللاً سياسياً في الولايات المتحدة نفسها. ومما يُحسب لنوّابنا في الكونجرس والمشاركين الآخرين، وبعض منهم كانوا من الرموز السياسية البارزة ممن لهم باع طويل ومميز في الحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري»، لم ينزلقوا أبداً إلى التلاسن أو تبادل الاتهامات. وقد كانت المخاوف التي أثاروها نابعة من القلب ومدروسة. وقد تأسفوا على «زوال» الأحزاب السياسية، التي وصفها أحد المشاركين بأنها بعد أن كانت تلعب دور الوساطة بين المؤسسات، أضحت الآن تبدو بشكل كبير مثل وسائل لجمع التبرعات. وقد خفَتَ الآن الدور المهم الذي كانت تلعبه الأحزاب لصالح المانحين من أصحاب المليارات، ولجان عملهم السياسي التي تدفعها أجندة ممولة بصورة جيدة. وشجب مشاركونا أيضاً تحول البرامج التلفزيونية عبر قنوات «الكابل» من ناقلة للأخبار إلى برامج ترفيه حزبية، وقد أضحت تؤجج المسار السياسي وتخلق حالة من الاستقطاب، بدلاً من تثقيف الجماهير. وقد أعرب الحضور عن مخاوف متزايدة في ظل عجز الكونجرس وبعض القادة السياسيين عن المشاركة في مسار مدني ومنتج، وهو ما يجعل من المستحيل الوصول إلى تسوية بشأن القضايا الجوهرية التي تواجه الأمة الأميركية. وقد كانت المناقشة عميقة وتثقيفية بشكل كبير، بيد أنه على رغم المحاولات المتكررة لإعادة تركيز المشاركين على الدور الأميركي في العالم العربي، كانت المناقشة تعود إلى انشغالنا بالسياسة في الداخل. وهكذا، فإن بعض القضايا مثل احتياجات اللاجئين السوريين والأثر المدمر على الدول المضيفة، والأزمة اليمنية والوضع المتردي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واحتمال توسع الدور العسكري الأميركي في سوريا من دون رؤية استراتيجية، لم تجد اهتماماً كبيراً. وقد غادرت العشاء وأنا أشعر بأنه كان يشكل انعكاساً لمأزقنا الوطني، فقد سبب الخلل الوظيفي الحزبي المفرط انكفاء أميركا على نفسها، ومن ثم، هجر الكونجرس دوره المرتقب، وترك قادتنا السياسيون الشعب الأميركي بلا دراية عن المخاطر المحدقة في العالم، وغير متأهب للتعامل مع التحديات التي نواجهها في دول ننخرط فيها بشكل كبير، ولذا، تبدو تلك إرهاصات كارثة!