حين انطلقت فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب خلال الأسبوعين الماضيين كان شعار تلك الدورة «القوى الناعمة... كيف؟». والشاهد أن القائمين على هذا العمل الفكري الكبير كانت علامة الاستفهام بالنسبة لهم تكاد تكون محصورة في المساقات المصرية، وهو تساؤل يشغل الكثير من النخبة المصرية ذلك أن المقاربة بين مصر في الألفية الثالثة وبين أحوال المحروسة في النصف الثاني من القرن الماضي، لن يصب أبداً في صالح الواقع، حيث سيدرك الناظر أن قوة مصر الناعمة في الستينيات بنوع خاص كانت أنفع وأرفع مما هو الحال الأن، ورغم المحاولات المضنية التي تبذلها الدولة حكومة وشعباً منذ ثورة يونيو 2013. الحديث عن القوى الناعمة المصرية، يأخذنا من حيث ندري أو لا ندري إلى رؤية أوسع عن القوى الناعمة العربية... ماذا عن حالها ومآلها؟ قبل الجواب لا بد من الإشارة التاريخية إلى مفهوم «القوى الناعمة» وكيف ظهر إلى سطح الاحداث من خلال رمزين تصادف انهما أميركيان. الأول: «جورج كينان» (1904 - 2005) أحد أهم العقول الاستراتيجية الأميركية، التي نظّرت للحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وقد انطلق في تاصيله للقوى الناعمة من أن الدول الكبرى تستطيع تحقيق أهدافها دون أن تغادر مواقعها أو تتكبد عناء المواجهات الحربية. آمن كينان بان السوفييت لا ينتشرون حول العالم أو تتسع حدود تخومهم ارتكازاً إلى صواريخهم النووية أو مساعداتهم المالية للأمم والشعوب، وإنما عبر مغازلة هولاء، وأولئك بالايديولوجية الشيوعية، والقول بانها مثال للعدالة المطلقة، التي تشبع الجائعين وتؤمن الخائفين. رأى «كينان» أن الاحتواء لابد وأن يقوم على تقديم أميركا النموذج الأخلاقي الناعم، وبنوع خاص عبر استخدام وسائل الإعلام من صحف، ومجلات، تلفزيونات وإذاعات. على أن الرمز الثاني ربما الأكثر ارتباطاً بهذا المفهوم «القوى الناعمة» «جوزيف إس ناي» «استاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد وأحد المفكرين الاستراتيجيين الذين يجمعون بين الأساس الأكاديمي وبين الخبرة والعمل الدبلوماسي. يحدثنا «ناي» في كتابه «مستقبل القوة» عن مصادر القوة الناعمه لأي بلد، ويرى أنها تتبلور في ثلاثة مصادر رئيسية: ثقافتها حيث تجتذب الآخرين، وقيمها السياسية حين تتمسك بأهدافها سواء في الداخل أو الخارج، وسياستها الخارجية، حين يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية. والشاهد أنه وإنْ كان صلب القراءة عن العالم العربي ومصر، فإن ذلك لا يمنعنا من التعرض إلى النموذج الأميركي، فقد أدرك مستوى من العظمة غير المسبوقة عبر «القوى الناعمة» في منتصف القرن الماضي، حينما كانت أميركا بالفعل «مدينة فوق جبل» تشع أضواؤها بالحرية والديمقراطية، وباقرار حقوق الإنسان، وهو نموذج يختلف طولا وعرضا، شكلا وموضوعاً عن أمريكا بوش الابن، الذي لا يجيد سوى استخدام القوة العسكرية في افغانستان والعراق، وحال المحصلة النهائية للحلم الأميركي يغني عن السؤال بعد أن سقط من أعين العالم. وبالعودة إلى نموذج القوى الناعمة، فإن مصر زخرت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بما كان يُكسبها بالفعل حضوراً كبيراً أدبياً وأخلاقياً، علمياً وإعلامياً، ثقافياً وتاريخياً. كان المعلم المصري المبتعث إلى العالم العربي نموذجاً للالتزام والجدية والاخلاص بنظرته للتعليم كمهنة إنسانية لبناء النفوس والعقول، فيما الفنون المصرية لعبت طليعة القوى الناعمة تلفزيونياً وسينمائياً ومسرحياً، أما عن الثقافة فحدث ولاحرج عن عمالقة كل منهم يمثل قامة ناعمة، فمن طه حسين إلى الحكيم، مروراً بالعقاد، والمازني، وإدريس والسباعي، عطفاً على الأصوات التي جمعت العرب من المحيط إلى الخليج: أم كلثوم، وعبد الوهاب، عبد الحليم، وكبار القامات العربية التي كانت القاهرة جواز مرورهم إلى بقية الآفاق العربية. تمثلت القوى الناعمة المصرية في مشروعين رئيسيين: بناء قاعدة صناعية وطنية من جهة، وبلورة نموذج للعدالة الاجتماعية من ناحية أخرى ما مكّن النسيج الاجتماعي المصري من أن يضحى متسامحاً متصالحاً مع النفس ومع الآخرين، ولهذا كان زمن «مد القوى الناعمة» المصرية، وربما كانت حرب أكتوبر 1973، آخر لحظات تلك المرحلة البراقة قبل أن تعاود مصر الآن جهودها. هل يخلو العالم العربي اليوم من نموذج للقوى الناعمة؟ الثابت أنه رغم ضبابية ولا نقول سوداوية المشهد العربي، تبقى دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً خلاقاً في هذا الإطار، فرغم حداثة تكوينها ونشأتها، إلا أنها تُبهر العالم من حولها يوماً تلو الآخر عبر عناصر متكاملة تجمع ما بين الطفرات الاقتصادية، والإدارة الحكومية التي تعد ذاتها أمينة على مصالح مواطنيها ومقيميها، ناهيك عن تحليها بنموذج إنساني راق يدرك قدر المسؤولية المناطة بها رغم أطماع إقليمية تارة، ومؤامرات ومقاصات القوى الكبرى تارة أخرى. قدمت الإمارات نموذجاً رائداً في التوفيق بين الحداثة وبين المعاصرة، فلم يعق الحفاظ على التراث التعاطي مع مستحدثات العولمة وتطور آليات الزمن وأدواته. نجحت الإمارات في تقديم رؤية ثقافية وفنية عبر مؤتمرات ومنتديات، صحف ومجلات، إذاعات وتلفزيونات تعظم من قيمة الإنسان. وقد بلغت الذروة عندما استحدثت وزارة للسعادة، حتى تجعل الحياة أوقاتا تستحق أن تعاش. وما بين نموذج القوى الناعمة المصرية القديمة، وتلك التي يمسح من عنها اليوم الغبار، وبين النموذج الإماراتي الناجح والبراق، يمكن للعرب بدء التساؤل الجدي عن تكلفة الفرصة البديلة أو المضاعة العقود الماضية. الخلاصة: الذين يقرأون لا ينهزمون. *كاتب مصري