تماماً، مثلما كان الرئيس دونالد ترامب بعيداً عن أن تكون له أي يد في ارتفاع مؤشرات الأسواق المالية خلال الأشهر الماضية، وعلى رغم نشره لأكثر من 60 تغريدة حولها على موقع «تويتر» منذ تم انتخابه، فالحقيقة هي أنه بريء أيضاً من أي مسؤولية عن الهبوط الحاد للأسهم الذي نشهده الآن. ومن ثم فإن علينا أن نلقي باللوم في هذه الحالة على الطرق والأساليب المتطورة التي تعمل بموجبها الأسواق. وخلال العام الماضي، أكد ماركو كولانوفيتش، خبير بحوث المشتقات المالية في مجموعة «جي بي مورجان»، أن المستثمرين المواظبين على شراء الأسهم والمضاربة بها، لا يتداولون الآن إلا نحو 10 في المئة فقط من مجمل الصفقات التي يتم تسجيلها في الأسواق، وأن نحو 60 في المئة من حجم التجارة بها، يندرج في إطار «الاستثمار السلبي والكمّي». وأكثر من نصف هؤلاء المستثمرين يعتمدون على التقنيات الحسابية الافتراضية لحالة الأسواق، وهم الذين يعود إليهم الفضل الأكبر في المكاسب التي حققتها أسواق الأسهم خلال السنوات المنقضية من القرن الجاري. وكان لابد لقطاع الصناعة والنظام التشريعي أن يرحبا بهذا التطور بعد أن أثبتت التقنيات الحسابية الافتراضية للتنبؤ بحالة الأسواق أن لها دورها الإيجابي في زيادة السيولة النقدية فضلاً عن كونها تمثل طريقة مناسبة لاكتشاف الفرص الاستثمارية التي تستحق الاهتمام. ومن المحتمل أيضاً أن تكون تلك التقنيات (التي أثبتت أن أداءها في تجارة الأسهم عن طريق التحليل الذاتي للمعلومات أفضل من أداء الإنسان)، قد تسببت في فصل أسواق الأسهم عن التدفقات الهائلة والمهمة للمعلومات المتداولة التي تعتمد في تحاليلها على البشر أنفسهم، وفقاً لما يراه الباحث تييري فوكو وزميلته سوفي مواناس من معهد تولوز الاقتصادي في فرنسا في تقرير نشر الشهر الماضي. ومن جهة ثانية، أظهر برايان ويللير الباحث في جامعة «ديوك» بولاية نورث كارولينا أن تجارة الأسهم بالطريقة الحسابية الافتراضية تقف حائلاً دون اكتساب المستثمرين للمعلومات المهمة في إدارة أعمالهم، فضلاً عن كونها أيضاً تعمل على تشويه أسعار الأصول وتؤدي إلى تحجيم الدور الذي تلعبه رؤوس الأموال في ضبط حالة الأسواق. وربما يرى البعض أن للاستثمار بطريقة الحساب الافتراضي فضلاً في تحويل أسواق الأسهم إلى ما يشبه أسواق التعامل بعملة «البيتكوين» الافتراضية المعتمدة من حيث الأساس على قواعد التجارة التي تعمل بالحسابات الإلكترونية. ولا يتعلق الأمر هنا بأن الأصول في مثل هذه الأسواق لا تكون لها قيمة حقيقية مثلما هي حال عملة «البيتكوين»، بل بأنها تسمح أيضاً بإنجاز الصفقات بين الأطراف المجهولة وبحيث لا يمكن للسلطات متابعتها أو الإحساس بحدوثها. ويمكن القول بكلمة أخرى إن التغير الذي طرأ على طريقة إدارة الأسواق يتعلق فقط بقدرة أجهزة الكمبيوتر على الكشف عن احتمالات تغير القيمة السوقية للأسهم، التي يمكنها استقراؤها بسهولة بسبب قدرتها الفائقة على التحليل الحسابي الإحصائي التي تفوق قدرة الإنسان بكثير. وحتى الآن، لم تتمكن الدراسات البحثية والأكاديمية من التأكد بشكل حاسم مما إذا كانت التجارة التي تعتمد على الأساليب الافتراضية يمكنها أن تزيد من احتمال «تبخّر» القيمة السوقية للأسهم والسندات والأوراق المالية. وقد وجدت بعض الدراسات الحديثة أن لها هذا التأثير بالفعل، فيما يرى باحثون آخرون أنها لا تساهم في ذلك أبداً. وربما كانت التجارة بالاعتماد على الوسائل الافتراضية تشجع على حدوث تقلبات أوسع مدى في الأسعار، مثلما نلاحظ هذه الأيام حيث أصبحت مؤشرات الأسواق الكبرى معرضة ل«التبخر» المرتبط بأدوات التحليل السوقي الإلكترونية، وهي سوق ابتعدت كثيراً عن الأساليب التقليدية المعتادة التي تعمل بموجبها أسواق الأسهم والسندات. وهناك أيضاً بعض الدلائل والمؤشرات التي توحي بأن الرهانات على مؤشر التقلبات هي المسؤولة عن معظم الهبوط الذي شهدته أسواق الأسهم خلال الأيام القليلة الماضية. ويبدو بوضوح أن ترامب يتمسك برؤية من الطراز القديم لأسواق الأسهم من حيث ربطه بين أدائها وتوقعات المستثمرين حول الوضع الاقتصادي والسياسات التي تعمل بموجبها الشركات. وهذا يفسر طريقة رد فعل إدارته على الهبوط السريع للأسواق. وقد قالت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض ساره هوكابي ساندرز: «إن اهتمام الرئيس يتركز على الأساسيات التي يقوم عليها اقتصادنا على المدى البعيد». وقد يكون هذا الاهتمام في محله بالنسبة لصانع القرار، إلا أن من الضروري أن ينتبه أيضاً إلى أن حالة السوق الراهنة لا تعتبر دليلاً قوياً على النجاح أو الفشل الاقتصادي، بل أصبحت تمثل بشكل متزايد حالة خاصة بحد ذاتها. ويمكن أن يكون لهذه الظاهرة السوقية الجديدة تأثيرها الأكبر على الأميركيين العاديين بأكثر مما قد تؤثر على ترامب، لأن نحو 54 في المئة منهم يستثمرون في القيم الاسمية لأسهم الشركات، وبطريقة مباشرة عبر الصناديق الاستثمارية. ---------------- * محلل سياسي روسي مقيم في برلين ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»